بدأت مرحلة الصراع على ولاية الفقيه

ليست إيران، ولا حتى مؤسّستها الحاكمة، مجرّد دمى يحرّكها الوليّ الفقيه. أما حسن روحاني فهو أبعد ما يكون عن ميخائيل غورباتشوف كي يقوّض “ولاية الفقيه” على طريقة تقويض الأخير لـ”ديكتاتورية البروليتاريا”.
هاتان غشاوتان رائجتان تحجبان الرؤية، رؤية أنه، بوصول روحاني، نكون تجاوزنا الصراع الجزئي (رئاسة خاتمي) أو الواسع (الثورة الخضراء) مع الوليّ الفقيه، ودخلنا، في لعبة إعادة رسم التوازنات داخل المؤسسة الحاكمة وخارجها، في آن، على طريق جلاء هوية الوليّ الفقيه القادم، وإعادة تعريف دوره في ظلّ اتضاح معالم دوره. الصراع منذ الآن “على ولاية الفقيه”، وليس “معها” أو “ضدّها”. وإن شئنا التبسيط: ما يسعى اليه روحاني ورفسنجاني هو أن يكون الواحد منهما، أو ما يعادلهما، الوليّ الفقيه القادم.
وبشأن هذه الولاية هناك لغط كثير. صحيحٌ أنّها عقائدياً حديثة العهد، اذ صاغها على هذا النحو الإطلاقيّ الإمام الخميني، لكنها أيضاً تنطلق من عناصر أساسية في التراث الإمامي، ليس فقط لجهة ارهاصاتها مع المحقق الكركي في العصر الصفوي، ومن ثم صياغتها غير المكتملة مع العلامة النراقي في القرن التاسع عشر، بل لأنها تسعى الى تسوية شاملة للسؤال الأساسي في مرحلة الغيبة الكبرى للإمام المهدي: من ينوب عن الإمام في مرحلة لم يعد فيها سفراء أو نواب له يحوزون على توقيعه كما في زمن الغيبة الصغرى، الملوك أم الفقهاء؟
فمع تشيّع ايران الإمامي في القرن السادس عشر أصبح السؤال لا مفرّ منه، فتنازعت نيابة الإمام “ولاية الملوك” من ناحية، و”ولاية الفقهاء” من ناحية ثانية. الحل الذي اسمه “ولاية الفقيه المطلقة الشرائط” جاء مبتكراً، فبدلاً من الحيرة بين ولاية الملوك أو ولاية الفقهاء تكون الولاية لفقيه واحد من بين الفقهاء، يختارونه من بينهم، ويستدل بالشورى، وتكون له السلطة الزمنية العامة كظلّ للإمام، وهذا لا يعني لزاماً أنّه يتّصل به، ولا أنّه معصوم مثله، كما يمكن للعباد أن يتبعوا مراجع تقليد آخرين، بل توافق نظرية ولاية الفقيه تماماً أنّ الوليّ الفقيه ليس أعلم الفقهاء في زمانه.
لسنا إذاً، أمام “خلافة معصومين” على الطريقة الفاطمية، وهي النوع الثيوقراطي الكامل الوحيد الذي عُرِفَ في التاريخ الإسلامي. وما يعقّد الموضوع أكثر، أو يكسبه احتمالات شتى، هو أن الخميني جعل من الوليّ الفقيه بالنتيجة قائداً للثورة الشعبية، متحاشياً أن يصير الولي الفقيه هو “ملك فقيه” ليس الا، ومحاولاً استيعاب فكرتي الدستورية والجمهورية، والفقه المساند لهما منذ الإمام النائيني وثورة المشروطة.
لكن مشكلة هذه النظرية، وتحديداً كونها تريد أن تتفادى صيرورة الوليّ الفقيه شاهاً جديداً، وتريده قائداً مرشداً لثورة مستمرة، هي أنّ الإمام الخميني صاغها على مقاس الهالة الكاريزمية التي كان يتمتع بها هو، والعمق الفلسفي الذي كان يعوّض عنده تواضع اسهاماته الفقهية. أما خلفه، علي خامنئي، فهو وليّ بلا كاريزما، وبلا عمق فلسفي، وبلا لمعات فقهية، فكانت أن انقادت الأمور بسرعة مذهلة الى أن يصير “فقيه الحرس الثوري”، وظلّ سطوة الحرس على المؤسسة الحاكمة ومفاتيح النهب، في مقابل اساءتهم لمكانة الفقهاء وعلماء الدين في المجتمع والدولة، وتقويضهم لأي نزعة استقلالية تبدر في الحوزة العلمية بازاء المؤسسة الحرسية.
وكون ولاية الفقيه قد أصابها ما أصابها على هذا النحو، كان “الديو” علي خامنئي – محمود أحمدي نجاد عزيزاً للغاية على قلوب كافة المكابرين على استفحال الأزمة المزدوجة: أزمة افتقاد خامنئي للأهلية والكفاءة، وأزمة تهميش الحرس الثوري لرجال الدين، في نظام يحسب على هؤلاء، كنظام “ملالي”. استندت ولاية الفقيه على الظاهرة الكاريزمية الشعبوية المهدوية التي شكّلها محمود أحمدي نجاد ردحاً من الزمان، وكان هذا “الثنائي” فترة ذهبية للمكابرين، وتحديداً “حزب الله”. وهي فترة انهارت على كل حال في العام الأخير من رئاسة نجاد.
كانت هذه “فترة ذهبية” بالنسبة الى الحزب، فهو، وان كان يتبع وظيفياً لـ”الحرس الثوري الايراني”، الا انه أيضاً، وفي نهاية المطاف، حركة شعبية مهدوية يدغدغها الخطاب “التعجيلي” بالخلاص (التعجيل بصنع القنبلة، التعجيل بعلامات ظهور القائم، التعجيل بتحرير بيت المقدس). كما أن التزامه التام بولاية الفقيه، لا يعفيه من مفارقة ان زعيمه، حسن نصر الله، ظاهرة كاريزمية، بخلاف علي خامنئي، وليّ الفقيه. ثالثاً، لئن كان الجهاز الأمني العسكري للحزب مرتبطاً عضوياً بالحرس الثوري، يبقى أن ايران الاسلامية استبعدت باكراً تجربة الحزب الطليعي على الطريقة الهرمية اللينينية، في حين أخذ به “حزب الله”. هذه الاختلافات الثلاثة كان يمكن المرور عليها دون اكتراث يوم كانت ثنائية “خامنئي – نجاد” تغطي على المشهد. الآن تستدعي التوقف عندها.

السابق
جنبلاط على موقفه المتريث ولن يغامر
التالي
الجيش: الاحتلال الاسرائيلي إنتهك السيادة اللبنانية