تنظيم الخلاف اللبناني

بين الانقسام العميق المتوتر وبين الحلول الجذرية لإدارة التنوع اللبناني هل من مكان لتنظيم الخلاف؟ قيل: إن لبنان أزمة دائمة محلولة. إلا أن لبنان اليوم غيره في الماضي بتكوين قواه وتياراته السياسية. المساومات الطائفية والتسويات تقلّصت حدودها وصلاحيتها الزمنية. الطوائف أقوى بكثير من الدولة واحتمالات استيعاب مشاريعها المستقلة واحتوائها أصعب من السابق. لا تطلب الطوائف لنفسها اليوم معادلات سلطوية أو توازنات سياسية وشراكة أفضل في الدولة المركزية. هناك جموح لفرض نمط عيش جديد يتصل بوظيفة الدولة الوطنية وبأولويات المجتمع وطريقة إدارته.
لا تستطيع الطوائف أن تعلن عن مشروعها في استهدافاته النهائية، لكنها تتصرف بطريقة «كفاحية» لمراكمة الوقائع في هذا السياق. نقطة الانطلاق المركزية في مطالبة الدولة أن تكون تابعة أو أن تكون ضعيفة خانعة. تتضح الصورة من الهدم المتمادي للمشتركات والتهشيم المستمر لكيان الدولة ومؤسساتها التي تستقل تماماً عن الخيارات السياسية الكبرى وخاصة السياسة الخارجية. من المفترض أن نظام العدالة، أو نظام الخدمات العامة والإدارة، وحاجات التطور الاقتصادي، عناوين وموضوعات ومؤسسات هي هذا المشترك وهذه العناصر التي يرتكز عليها العقد الاجتماعي أو الوطني الذي نسميه «العيش المشترك». كما أن هذا «العيش معاً» مع الاختلاف السياسي أو مع التنوع الثقافي، تحفظه منظومة واسعة من وحدة الحقوق والواجبات فضلاً عن الحريات العامة والخاصة. في الأزمة اليوم، لا تحترم الأطراف هذه المعايير ولا تضعها خارج المنازعة. كل ما هو من وظائف الدولة صار خاضعاً لحسابات طائفية سياسية مصلحية حتى زالت نهائياً نقاط الارتكاز أو مرجعيات التوحيد، من الاختلاف على قواعد الدستور، إلى إسقاط القضاء الدستوري، إلى تحجيم فعالية القضاء العدلي والإداري، إلى تقييد المجلس النيابي كسلطة مشترعة ثم إلى إفقاده شرعيته الشعبية المستمدة من الانتخابات الدورية.
يتشارك طرفا النزاع اللبناني ويتكاملان في الموقف من مشروع الدولة، مهما بدا الخطاب السياسي المتقابل متناقضاً. فلكل طرف أولوية سياسية مختلفة، وليس لأي منهما رغبة في أن تكون الدولة ميدان نزاعهما. فما زال الصراع على الدولة وعلى تحميلها مضامين ومصالح غالبة، طائفية فئوية، وتكريس نظام التفاوت في الحقوق والواجبات، الذي ينعكس عادة في كل خطاب عن الصلاحيات والسلطات و«امتيازاتها».
تشيع من وقت لآخر فكرة «طائف ثان» وكأن الطائف الأول سقط بسبب الثغرات الدستورية أو بسبب غموض بعض الصلاحيات أو بسبب ما قيل إنه وصاية خارجية كانت في خلفية مشروعه ومرجعية التحكيم فيه. إلا أن الطائف الذي لم يطبق أصلاً أراد أن يضفي حلّة دستورية وقانونية على مجتمع فاضت مشكلاته عن مركزية الدولة.
إن الطابع الليبرالي للدستور ولنظام الجمهورية الأولى والجمهورية الثانية، خاط ثوباً لمجتمع يتقدم بسرعة إلى بلورة «إثنيات» في جعل الطوائف والمذاهب ليس فقط مؤسسات سياسية أو شعبية، بل في جعلها كيانات منكمشة على وجودها وعناصرها.
فالطائفيات السياسية لم تكتفِ باستنساخ تجربة المارونية السياسية في إنشاء منظومات أهلية هي التي ساعدت على تقوية العصبية ولحمتها، بل سعت إلى اقتسام الدولة حين فشلت في تقديم مشروع وحدوي ينطوي على حد واسع من قبول ورضا الآخرين. فإذا كان الشيخ بيار الجميل يقول: «نطالب بالدولة حماية لوجودنا ويطالب المسلمون بالدولة تحقيقاً لوجودهم»، فالمسلمون بأرجحيتهم السياسية بعد الطائف لم يجدوا نصاباً لهذه الدولة يحتوي نزوع المسيحيين ولا هم وجدوا نصاباً يوحّدهم كمسلمين، لأن نظرتهم إلى الدولة هي نظرة سلطانية ذات بُعد «خلافتي أو إمامي»، أي ذات بُعد ديني مستحدث من عصر الانحطاط السياسي والفقهي لا من عصر النهضة أو الحداثة.
فإذا كانت هذه حالنا، فهي من بعض حال كل العرب والمسلمين الذين لم ينجزوا مشروع استقلال السياسة وتدبير شؤون الدنيا عن مرجعية عقيدة السيطرة على حاجاتها وإخضاع هذه الحاجات لها لا إلى المصالح المرسلة، وإلى الاجتهاد العقلي. وإذا كانت لنا ميزة أو خصوصية فهي في كوننا مجتمع التنوع المتوازن الذي لا طائل من محاولات إخضاعه لنسق فكري واحد أو نمط عيش موحد. ولأننا لم ننجح في اجتياز عتبة التعايش إلى العيش الواحد فلا مناص من البحث عن صيغة تضع حدودا نهائية لأوهام الإلغاء والسيطرة. ولن تقوم هذه الصيغة بإرادة منفردة من أطراف هذه الطبقة السياسية، بل من الإقرار الشامل بطبيعة المجتمع ومكوناته وجميع قواه واتجاهاته.

السابق
بندر أميراً للجهاد
التالي
أهالي عبرا يتحرّكون لوقف مسيرات انصار الاسير