لماذا تكلّم نصرالله شيعياً؟

هل كان السيّد حسن نصرالله مضطرّاً للتخلّي عن الخطاب القومي لمصلحة الخطاب الشيعي؟ وهل خطاب من نوع «نحن حزب الله الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثني عشري..» يساهم في الحدّ من المناخات المذهبية السنّية-الشيعية أم يفاقم هذه المناخات؟ وإلى أيّ حدّ هذا الخطاب يخدم سياسات الحزب اللبنانية؟ وما الرسالة التي أراد نصرالله إيصالها؟

في أقلّ من شهرين أصرّ “حزب الله” على إبراز دوره الإقليمي في قضيتين محوريتين، وذلك بما يتناقض مع الدستور اللبناني ويتوافق مع طبيعة تكوينه منذ ولادته، كما وظيفته التي تحدّدها الاعتبارات الاستراتيجية الإيرانية والتي لها الأولوية على أيّ اعتبار آخر.

ففي القضية الأولى رفع نصرالله عنوان “نصرة النظام السوري والقتال إلى جانبه في مواجهة التكفيريين”، في الوقت الذي كان بإمكانه مواصلة قتاله غير المعلن إلى جانب النظام الذي بدأه مع بداية الثورة، إلّا أنّ إصراره على إعلان انخراطه المباشر في القتال ينمّ عن رسالة إيرانية إلى العالم مفادها أنّ طهران لن تسمح بإخراجها من سوريا، وستحول دون قيام أيّ تسوية لا تأخذ مصالحها في الاعتبار.

وفي القضية الثانية كان السيّد نصرالله أكثر صراحة، حيث قال: “يريدون إخراج الشيعة من معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي من أجل إخراج إيران من هذه المعادلة”، وهذا ما دفعه إلى التأكيد “نحن حزب الله الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثني عشري لن نتخلى عن فلسطين كلّ فلسطين من البحر إلى النهر”، واستعاد مقولة “إزالة إسرائيل مصلحة لبنانية وعربية”، وأعطى لنفسه الحق برفض “أي تسوية تتنازل عن حبّة رمل واحدة من تراب فلسطين”. وفي القضيتين يتبيّن مدى أهمية النظام السوري بالنسبة إلى إيران التي كانت تستخدمه للتلطّي خلفه بغية إخفاء مشروعها الإقليمي-المذهبي.

فخروج النظام السوري من لبنان أدّى إلى كشف “حزب الله” واضطراره إلى تصدّر المواجهة من مربّعه الشيعي لإبقاء لبنان ساحة نفوذ لإيران. والانهيار الوشيك للنظام السوري دفع الحزب للدخول في كلّ قوّته في المواجهة العسكرية لمنع سقوط هذا النظام. وغياب الدور الإقليمي للنظام السوري نتيجة الثورة اضطرّ الحزب إلى الدخول على القضية الفلسطينية بثياب شيعية في رسالة تهديد واضحة لاستئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية.

ومن هذا المنطلق لم يكن من خيار أمام “حزب الله” بعد التسلّم والتسليم بينه وبين النظام السوري في 8 آذار 2005 إلّا أن يتكلم شيعياً في لبنان ويدخل في المواجهة من موقعه الشيعي، هذه المواجهة التي أدّت إلى ارتفاع منسوب الاحتقان السنّي-الشيعي، خصوصاً في ظلّ السعي المبرمج لضرب الطائفة السنّية وتدجينها.

ولم يكن أيضا من خيار أمام الحزب بعد الثورة السورية واحتمالات سقوط النظام إلّا أن يدخل في الحرب السورية من موقعه الشيعي، هذه المواجهة التي أدّت إلى عزله عربياً واعتباره أداةً شيعية-إيرانية ضد العرب والسنّة. ولم يبقَ من خيار أخيراً أمام الحزب إلّا الدخول على القضية الفلسطينية من البوابة الشيعية بعد انشغال النظام السوري بأزمته ومرحلة عدم التوازن التي تشهدها “حركة حماس” بعد خروجها من محور الممانعة وسقوط نظام الأخوان في مصر.

فالثورة السورية عرّت “حزب الله” ودفعته للعودة إلى البدايات عبر إعادة الاعتبار للخطاب الشيعي، فضلاً عن أنّ الثورات العربية أسقطت المسألة القومية عبر إعادة الاعتبار للقضايا الوطنية والأولويات الداخلية لكلّ دولة من الدول، وفي طليعتها الحرّية التي تمّت مصادرتها لحساب المسألة القومية وتحت عنوان “لا شيء يعلو فوق صوت المعركة”.

ولكن بعد التحوّلات التاريخية التي شهدها العالم العربي، وبعد إعادة إطلاق المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية التي تمّ تحديدها بفترة زمنية (9 أشهر) في إشارة إلى الجدّية والعزم على الخروج بالنتائج المرجوّة، برز خشية إيرانية كبرى من “تهريب” تسوية في اللحظة التي يضع فيها الثلاثي الممانع (إيران والنظام السوري و”حزب الله”) كلّ ثقله في الأزمة السورية، فجاءت الرسالة واضحة: إخراج إيران من معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي ممنوع، الأمر الذي يعني أنّ إيران لن تتأخّر في تفجير الوضع على الأرض الفلسطينية، أو فتح حرب بين “حزب الله” وإسرائيل لتفجير هذه المفاوضات.

وإذا كان النظام الإيراني يعيش مرحلة من أصعب المراحل في تاريخه بعد صعود دوره مع إسقاط نظامي طالبان وصدام، وذلك بفعل محاصرته اقتصادياً داخل حدوده واحتمالات فقدان أوراقه الواحدة تلو الأخرى، ولكن لا يبدو في المقابل أنّه في وارد التساهل مع خسارة أيّ ورقة من هذه الأوراق، والدليل انخراطه الماليّ، على رغم أزمته الاقتصادية، والعسكري، على رغم مخاطر الانزلاق إلى فتنة سنية-شيعية، في الحرب السورية، وما ينطبق على سوريا ينسحب حكماً على فلسطين، حيث إنّ أيّ تقدّم جدّي في مسار المفاوضات سيدفعه إلى التفجير، على غرار ما حصل في كل المفاوضات السابقة بغية تعطيل المسارات السلمية، الأمر الذي يعني أنّ الأمور في المنطقة تتّجه إلى مزيد من التسخين والحرائق والحروب من العراق إلى فلسطين مروراً بسوريا ولبنان.

وفي السياق لا بدّ من بعض التساؤلات: إلى متى يجب أن تبقى القضية الفلسطينية مصادرة من قبل سوريا وإيران و”حزب الله”؟ أليست هذه القضية مُلكاً للشعب الفلسطيني وحده؟ وما علاقة “الحزب الشيعي الإمامي الإثني عشري” بفلسطين؟ وبأيّ حقّ ينسف السيّد نصرالله كلّ ما تحقّق بين الفلسطينيين والإسرائيليين من أوسلو إلى اليوم بالعودة إلى الشعارات الرنّانة والفضفاضة التي أسقطها الشارع العربي من قبيل “إزالة إسرائيل من الوجود”؟ وهل هذا الهدف المتواضع الذي حمّله نصرالله للشيعة قابل للتحقق أم الهدف منه فقط الاستثمار السياسي والتعبئة والتجييش للإقرار بالدور الإقليمي لإيران؟ وكيف يوفّق نصرالله بين نبذه الكلام المذهبي والكلام بلغة مذهبية خالصة؟

ألا يعتقد أنّ مواصلته التحدّي وتصميمه على وضع يده على فلسطين ولبنان وسوريا يؤدّي إلى زيادة الاحتقان والتشنّج؟ وأين مصلحة لبنان في توريطه حيناً في حرب مع سوريا وأحيانا في حرب مع إسرائيل؟ وما قيمة الحوار مع طرف يعلن جهاراً أنّ أولويته شيعية-إيرانية تتناقض مع الأولوية اللبنانية في التحييد والنأي بالنفس؟ وهل من مصلحة لبنان تشكيل حكومة مع طرف يحارب في سوريا ويستعدّ لفتح حرب مع إسرائيل؟

فما بين الحرب في سوريا وإعلان الحرب على المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية أظهر “حزب الله” مرّة إضافية استحالة التوصّل معه إلى أيّ تفاهم لبناني-لبناني. ولا بل إنّ مصيرية الصراع بالنسبة إلى طهران كشفت دوره المتقدّم في تنفيذ السياسات الإيرانية، وكأنّه مفوّض إيرانياً إدارة الملف الشرق أوسطي برُمّته.

فالاتهامات حيال “حزب الله” سابقاً والنابعة من التحليل والربط والتقدير أصبحت وقائع دامغة مع انخراطه في الحرب السورية المباشرة بعد اللقاء بين نصرالله والمرشد علي خامنئي، ومع إعلان أمين عام الحزب بصراحة ووضوح في خطابه الأخير رفضه الوقوف مكتوف الأيدي أمام محاولات “إخراج الشيعة من معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي من أجل إخراج إيران من هذه المعادلة”، علماً أنّ أحداً لا يريد إخراج أحد من هذه المعادلة التي يتوقف تقرير مصيرها على الفلسطينيين فقط لا غير، وعلى كلّ الدول دعم خيارات الشعب الفلسطيني فقط لا غير، وكلّ ما سوى ذلك هو تعَدٍّ على حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وما دخول السيّد نصرالله على هذا الخط باستخدام كلّ أوراقه إلّا دليل إرباك وضعف وأنّه مأزوم.

ومن أبرز خلاصات التورّط في سوريا والإعلان الخطير في الموضوع الفلسطيني أن لا حلّ في لبنان قبل الحلّ في المنطقة، إذا حصل، بفعل الربط العملي الذي يقيمه “حزب الله”، ولكن الأساس لبنانياً يبقى في عدم تقديم أيّ أوراق مجانية للحزب من قبيل الحكومة أو الحوار أو سواهما، بانتظار التسوية الموعودة ولو طالت “عقوداً من الزمن”..

السابق
انتحار مراهقة بسبب الفايسبوك
التالي
القرضاوي: سيخيب الله سعي من افترى وسينجح سعي المؤمنين الصادقين