المارد دون زمانه

الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر

تحوم روح عبد الناصر حول مصر اليوم بمعية زعيمها الجديد عبد الفتاح السيسي. كل شيء، كل شيء تقريباً يستدعيه: من أناشيد الستينات وصورها وتعبيراتها التي ملأت ميادين خصوم الاخوان المسلمين، الى الوطنية المصرية المرفوعة الى مصاف العقيدة. الى الشعوبية التي تتغنى بـ”الشعب” وتغازله. الى “الكاريزما” التي بات يتمتع بها فجأة القائد عبد الفتاح السيسي، عاشق عبد الناصر… ومرتدياً هندامه المهيب نفسه، البذة العسكرية. الى “حمى السيسي” التي أصابت هذا “الشعب”، تلك الجاذبية العجيبة… وصار “لاصوت يعلو فوق صوته”، الى وجهة الحرب ضد الإخوان وما سوف ينجم عنها من نسخة تكاد تكون طبق الأصل عما تعرضوا له على يد عبد الناصر. الى الصورة التي نزلت على الشبكة، وانضم الى رابطها أقل بقليل من مليون متفرج، يبدو عليها عبد الفتاح السيسي وهو صغير، في حوالي الثالثة أو الرابعة من العمر، يقدم بيد باقة زهور الى عبد الناصر، وبيد أخرى يلقي عليه التحية العسكرية بابتهاج واضح. الى المقالات التي انكبّ فيها كتابها على ربط التبجيل بالسيسي مع المرحلة الذهبية الناصرية…
واضح ان روح عبد الناصر تلقي بثقلها على المناخ السائد اليوم في مصر. مجرد صدفة تاريخية؟ عفوية؟ تتخاطب ثورة سابقة مع اخرى لاحقة؟ أم انها قانون حتمي كان لا بد منه؟ أم مجرّد طبخة سياسية-إعلامية بائتة سوف تزول؟ الأيام وحدها سوف توفر إجابة مرضية على هذه التساؤلات. الأيام وحدها سوف تلد ما حملته في هذه اللحظة من مجراها.
ولكن الآن، يمكننا وضع ملامح إجابة على سؤال ممكن، سؤال قد تكون الاجابة عليه مجرد فرضيات. والفرضية مفيدة أكثر من اليقين الناجز في هذه الأيام، الصاخبة والعنيفة والمليئة بالمفاجآت. اذن السؤال هو: لماذا عبد الناصر بالذات دون غيره من الرؤساء؟ ولماذا رئيس ورؤى ومناخات ماضية، غير جديدة؟ وعما تعبر عنه تلك العودة؟
عبد الناصر دون غيره؟ لأن حلول عبد الناصر يحيي الوطنية المصرية من الغفو، من العودة الى حقبة أخرى، كانت الوطنية المصرية مهيمنة على العالم العربي ومحركة لأحداثه، بالكرامة والريادة. ولأن حلوله يوثق العلاقة القائمة بين الجيش والشعب، بعد انقلاب هذا الأخير على الاخوان، بدعم من الشعب. والأهم من كل ذلك كله، ومعه، إضفاء شرعية تامة على المعركة السياسية والميدانية التي يخوضها الجيش ضد الاخوان.
أما لماذا الماضي، عبد الناصر، وليس المستقبل، أي رؤية جديدة أو صيغة او فكرة او شخصية…؟ فلأن الثورة المصرية لم تجد في الحاضر ما يهيؤها لإختراع مستقبلها. وبعدما استعانت بالاصولية الدينية التي خيبت كل ظنونها، وبما انها خالية الوفاض، فاقدة لقوة الدفع التي انهكها عهد مبارك، كان عليها ان تطلب المدد من أصولية أخرى، أبوة اخرى، كان الجيش خير معين لملء فراغاتها. هكذا حلّ عبد الناصر على المشهد عبر السيسي.
ولكن مع الفارق مع عصر عبد الناصر: فقوة الدفع هذه، الضئيلة اليوم، كانت من حظ عبد الناصر وارث الطاقات الابداعية التي خلفتها الملكية، فحصلت الكيمياء، وكان القدر مع عبد الناصر. من مقومات قوة الدفع ان مصر كانت طليعية منذ ايام الملك، وكانت غنية، تصدر زراعة وصناعة. لم تكن مستنزفة من التأسلم والغوغائية والمزايدة الوطنية والدينية. كانت عروبة مصر سلطوية، ولكنها ندية، ابنة عصرها المليء بالتفاؤل والآمال. فيما هي اليوم، هذه القضية، عرضة للتلاعب والنبذ وربما الملاحقة….
سؤال أخير: ماذا يفعل السيسي بهذا المارد الناصري الذي أيقظه من خارج عصره؟ سوف “يستلهم الروح الناصرية”، يجيبونك. ومع علمنا بمطاطية هذه الروح، علينا ان ننتظر فتاوي اين منها فتاوي المشايخ الألعوبانية

السابق
الظواهري: النزاع السوري كشف عن “الوجه القبيح” لحزب الله
التالي
تمثيل جريمة جمو اليوم.. وسعد يهدد