مطلوب مراجعة فرع الأمن

بموازاة الرصاص الذي يسمع أزيزه في لبنان خلال اشتباكات متنقلة على المحاور، أو صواريخ عابرة للحدود، ثمة كواتم للصوت تفرغ طلقاتها في أفواه الناشطين المدنيين والصحافيين والمدونين من الفاعلين في الشأن العام لتثنيهم عن مهامهم.
تلك الكواتم تتمثل في أجهزة الأمن والمكاتب المتفرعة عنها بمسميات شتى مما لم يسمع به الناشطون قبل استدعائهم اليها بالإهانة والترهيب، فكيف بالمواطن العادي. وتحت مزاعم فضفاضة لا ترقى إلى الاتهام القانوني المباشر، من قبيل التهجم على شخصية عامة أو مكافحة الجريمة الالكترونية، يستدعى صحافيون وناشطون إلى فروع الامن ليكتشفوا هناك أن حساباتهم الالكترونية مخترقة ومراقبة، وأن صفحاتهم الفايسبوكية ومدوناتهم تعبر أولاً برجل الأمن ليشكل كل رأي يطرحونه ممسكاً ضدهم.
وعوضاً عن أن تعمل تلك المكاتب على تعقب الجرائم الواقعية والافتراضية الكثيرة التي تستبيح الساحة اللبنانية، من تشهير بأشخاص وسرقة بيانات مصرفية وغيرها، تفرغت الأجــهزة الأمنية لتقترف بنفسها جريمة اخلاقية وقانونية باختراق خصوصية المواطنين عموماً وأصحاب الرأي خصوصاً. وتحت التهديد المعنوي، يُدفع هؤلاء الى تراجع عن رأي عبروا عنه هنا أو هناك، والتوقيع على تعهد بعدم معاودة التعرض للسياسيين مقابل إخلاء سبيلهم.
أما كيف يعقل أن يطلب من ناشط او صحافي عدم تناول أداء سياسي أو كشف فساده وهو الذي يفترض إنه صلب مهمته، فليس من يجيب!
واللافت أكثر أن تلك الممارسات يغلفها صمت مريب بحيث باتت تتكرر أخيراً من دون أن يجرؤ الناشطون انفسهم على فضحها علانية ولا أن يثقوا بجهة قادرة على حماية حقهم في حرية التعبير.
يأتي هذا في وقت أصدرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» تقريراً مخزياً يفضح ممارسات مراكز الشرطة اللبنانية مع الفئات المستضعفة من دون أن يثير ذلك حساسية أي مسؤول أمني أو سياسي ويدفعه الى الوقوف والإدلاء بتوضيح للرأي العام. هذا مع العلم أن جزءاً كبيراً من إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية وتجهيزها وتدريب عناصرها تم بتمويل وإشراف مباشر من الاتحاد الاوروبي ضمن شراكات مع الحكومات اللبنانية المتعاقبة. وربما كانت هذه مناسبة للجهات المانحة لأن تعيد النظر في هذا الاستثمار الذي استخدم سلاحاً ضد من يفترض أن يحميهم، ومكن رجال الامن من أعناق المواطنين بتقنيات حديثة وأساليب عصرية. وبالنظر الى التسيب الأمني المستفحل في لبنان، وارتفاع عدد الجرائم والجنح بشكل مضطرد، يتساءل المرء عن سبب التضييق على أصحاب الرأي بدلاً من اصحاب السلاح. لكنه على ما يبدو للأسف دأب الطبقة السياسية وأدواتها الأمنية في اختيار الخصوم، في أسلوب سبق وأرسته أجهزة المخابرات السورية في لبنان. وبهذا تصل الرسالة واضحة للناشطين الحقوقيين وأفراد «المجتمع المدني» (مع التحفظ على التسمية) بأن السلطة لا ترغب في التعامل مع أمثالهم ممن يتوجهون طواعية الى فروع الأمن، ويطلقون تغريدة أو بالحد الأقصى «ستاتوس»، وإنما تفضل لنفسها محاوراً مسلحاً من طراز الشيخ الصيداوي أحمد الأسير.
إنها مرة أخرى العقلية الأمنية نفسها التي تتحكم بتفاصيل حياتنا. تخرق شاشاتنا وتقتحم أفكارنا وتشاركنا فراشنا لتعود وتشهرها أدلة دامغة على إدانتنا. العقل المخابراتي نفسه يتبختر بيننا ويختار ضحيته المقبلة بهدوء وصمت وإصرار مغيراً ثوبه من عسكري الى مدني وديني. فيسكت إعلامياً في بيروت، ويعتقل رساماً في دمشق، ويطارد ناشطاً في سراقب ويغتال نائباً في تونس.
وما الدعوات الى طاولات حوار ومصالحات وطنية سوى فولوكلور لإعادة انتاج سطوة قادة الحروب وتبييض فسادهم في قوالب جديدة. أما المحاسبة وإعادة الثقة بمؤسسات الدولة الحقيقية، وتنقية الذاكرة الجماعية تلك التي تساعد المجتمعات للتخلص من رواسب نزاعاتها الأهلية، كل ذلك، هو مما يشتهى ولا يتحقق.

السابق
مصدر فرنسي يتحدث عن رسائل بين حزب الله واسرائيل
التالي
الفهم العربيّ لـ«الإرهاب»