العلّة في الدستور… أم في المستور

يعاني لبنان من تداعيات الأزمة. عدم القدرة على تأليف حكومة، وعدم التفاهم على قانون إنتخاب، وتأجيل الإنتخابات، والتمديد لمجلس فقد شرعيته، وتعطيل المجلس الدستوري… فيما الأزمة الحقيقيّة تتمثل في غياب المرجعيّة، وتجاوز الدستور، او تعطيله.

قيل الكثير في الطائف، وعنه. قيل إنه مجرّد هدنة بين حربَين. وإنه إنتزع الامتيازات من المارونيّة السياسيّة، ليجيّرها الى السنيّة السياسيّة، وإنه عطّل الإنتساب الى المواطنية لمصلحة الطائفيّة والمذهبيّة، ولذلك كان دائماً بحاجة الى مرجعيّة خارجية تشرف على تطبيقه، وإرغام «الشعوب» والفاعليات اللبنانية على الإمتثال لأحكامه.

خرج الجيش السوري من لبنان في نهاية نيسان 2005، وأُتيحت للبنانيين فرصة ثمينة لانتزاع المبادرة، والإمساك بزمام الأمور، والتصرف كشعب ديموقراطي حضاري يحترم نفسه بمقدار احترامه الدستور والقوانين المرعيّة، لكنهم لم يفعلوا، او بالأحرى لم يتمكنوا، لأنّ الطائف جاء بقادة الميليشيات من الشارع، ونصّبهم أولياء على الدستور، والدولة، والمؤسسات، وإذ يتبيّن بعد كلّ هذه السنوات، بأنّ قادة الميليشيات لا يريدون بناء دولة، ولا قيام وطن، بل يحنّون الى زواريبهم، ومربعاتهم، بعد الإمعان في إمتصاص عائدات الدولة، وتقاسم خيرات الوطن.

حاول رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان أن يمارس دوره كمرجعية بعد إنتهاء زمن الوصاية السورية، فوجَد بين يديه “طائفاً” طافحاً بالثغرات والعيوب، «حمّال أوجه»، يخضع كلّ بند فيه لأكثر من تفسير وإجتهاد، ولذلك واجَه صعوبات جمّة، ولا يزال.

لا أحد يتحدث عن الصلاحيات، ولا عن «إسترجاع الإمتيازات». ليس هذا المطلوب، ولا هو المرغوب، بل الحكمة والفطنة والدراية لتسيير شؤون الدولة، وتفعيل المؤسسات عن طريق تفسير النص، والتفاهم على توضيح الإلتباس، وخير مثال ما نحن فيه اليوم.

هناك رئيس مكلف، لم يتمكن حتى الآن من تأليف الحكومة، فهل يفترض أن يبقى مكلّفاً مدى الحياة، أم يجب وضع نصّ دستوري يحدد مهلة التكليف، حتى إذا ما انقضت من دون أن يتمكّن من التأليف، يعتبر مستقيلاً، ويصار الى تكليف شخصيّة أخرى؟! هناك أمثلة ونماذج عدّة لا بدّ من الإقبال عليها وتفسيرها بنصّ دستوري صريح لتخطي الكثير من الإشكالات، التي تعيق مسيرة الدولة والمؤسسات.

يريد البعض مجلساً تأسيسيّاً لإعادة النظر في الصيغة والنظام. يريد طائفاً جديداً، او ربما طائفاً شيعيّاً يحل مكان الطائف السنّي. لا يتحمّل البلد مجازفة بهذا الحجم، ووسط هذه الظروف الدقيقة، وإذا كان أقل الممكن متعذّراً، فكيف إذا كان المطلوب هو بحجم المستحيل؟! وإذا كانت دعوة رئيس الجمهورية الى طاولة الحوار صعبة التحقيق، فكيف بالدعوة الى تفاهم على دستور جديد؟

وإذا كان الردّ على دعوته يأتي مكبّلاً برُزم من الشروط من الأطراف، وبعضها تعجيزي، فكيف سيكون الرد على الدعوة الى طائف جديد؟! ليس المطلوب طائفاً جديداً، ولا المطلوب إعادة تقاسم الصلاحيات، بل توضيح الالتباس أينما وجد في النص، وتفسير ما يكتنف بعض المواد الدستورية من غموض وإبهام للتحرر من عقدتين، الأولى: تطبيق الطائف بحذافيره للتخلص من مقولة «إنه لم يطبَّق بالكامل بعد؟!».

والثانية: تفعيل الحوار، لأنّ الطائف وليد الحوار، وإذا كان متعذّراً، فكيف السبيل الى معالجة الالتباسات؟ لا بل كيف السبيل الى مؤتمر تأسيسي، او الى طائف آخر، إذا كانت الأولوية هي للفئوية والمذهبية والطائفية على حساب المواطنيّة؟!

يحاول رئيس الجمهوريّةّ أن يعدّ الصيغة، ويلائم المناسبة لعل طاولة الحوار إذا ما التأمت، يمكن أن تتحول، وللمرة الأولى، الى حوار وطني جديّ، يضع سلّماً بالأولويات، ويحاول تحصين المرجعيّة، وتنزيهها من الشوائب، وتفعيل دور الدولة والمؤسسات من خلال التفاهم على التفسيرات او التعديلات التي لا بدّ منها لتتّضح الأمور، وتتوضح الصلاحيات، ويكتب للطائف «عمر جديد»، ويخضع لامتحان جديد حول مدى قدرته على بناء وطن جدير بأهله، لا على توفير مظلّة تحتمي في ظلّها الطوائف والمذاهب، والمربعات المغلقة؟!

السابق
روسيا تخشى تحوّل لبنان إلى ساحة جهاد
التالي
هل يتحوّل Instagram إلى منصة إعلانية؟