المعركة مع التطرف في سوريا

كثيراً ماردد السوريون، ان سوريا والسوريين أبعد مايكون عن التطرف والتشدد في كل الأمور والموضوعات، بما في ذلك موقفهم وفهمهم وسلوكهم من الناحية الدينية، وكان اصحاب هذه الرؤية، يستدعون في سياق تأكيد رؤيتهم معطيات ووقائع لا تخلو من أهمية، مثل الاشارة الى الطابع التعددي الديني والطائفي لمواطنيهم، وهو تعدد يعود الى عصور قديمة بدأ مع اولى الديانات الى استمرت الى جانب ما تلاها، وما ولد في سياق تلك الديانات من طوائف ومذاهب عاشت واستمرت في الواقع على اختلافها وتمايزها.
ويسوق اصحاب هذه الرؤية، معطيات اخرى حديثة ومعاصرة، مشيرين الى ان الاسلام السوري في طابعه العام له مسحة وسطية معتدلة، وان تلك المسحة فرضت نفسها على جماعات الاسلام السياسي، التي بدأ ظهورها اواخر ثلاثينات القرن العشرين، وكان بين أبرز رموزها مصطفى السباعي وعصام العطار، وعندما سعت تلك الجماعات للذهاب خارج سياق الاعتدال والوسطية الى العنف المسلح والجماعات المقاتلة في ثمانينات القرن الماضي في اطار صراعها مع نظام الاستبداد والدكتاتورية والفساد، فان السوريين لم يذهبوا معها رغم عدائهم للنظام القائم في حينها، وتركوها تواجه مصيرها منفردة، دون ان يقفوا الى جانب النظام او يسايروه.
غير ان الفكرة عن السوريين في بعدهم عن التشدد والتطرف وميلهم الى الاعتدال والوسطية، تعرضت للاهتزاز وصارت موضعاً للشك في العامين الاخيرين، والسبب الرئيس في هذا التحول، هو ظهور جماعات التطرف والتشدد الاسلامي والتي بدأ ظهورها الاول مع جبهة النصرة في بلاد الشام في بدايات العام 2012، ثم تصاعد وصولاً الى دولة العراق والشام الاسلامية أخيراً وبينهما كان العديد من الجماعات، واقترن مع ظهور هذه الجماعات حديث عن متشددين اسلاميين من العرب والاجانب وفدوا الى سوريا وبعضهم لعب دوراً في تأسيس وقيادة تلك الجماعات، التي وان توافقت شعاراتها بشأن اقامة الدولة الاسلامية، فانها اختلفت وتصارعت على تفاصيل فيما بينها، واتخذت موقفاً عدائياً من شعارات الثورة في طلب الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة وحكم القانون. وزاد على ما تقدم، ما تم القيام به من جانب تلك الجماعات من ممارسات اساسها اكراه واجبار السكان في مناطق تواجدها على تبني شعارات والقيام بسلوكيات تنتمي الى عالم تلك الجماعات، وتسربت للاعلام وقائع واحداث، قامت بها تلك الجماعات وكثير منها يصنف في عداد الجرائم الجنائية المعاقب عليه بالقانون، وان تمت تغطيته بواجهات دينية أو سياسية.
وبصفة عامة، لايمكن رؤية مؤشرات التحول السوري من الاعتدال الى التطرف بمعزل عن السياسات والممارسات التي تابعها النظام ضد السوريين منذ انطلاقة ثورتهم في آذار 2011، حيث كان اطلاق النار تعبيراً عن تطرف وتشدد النظام في مواجهة مطالب الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، الامر الذي أسس لعسكرة وتسلح، كما أسس لتطرف وتشدد يواجهان موقف النظام. بل ان ثمة ما هو أكثر من ذلك في سياسات النظام التي عززت فرص ظهور التطرف والتشدد الديني والجماعات الاسلامية التي تتبنى ذلك، والابرز في هذا المجال ثلاثة نقاط، النقطة الاولى قيام النظام باطلاق سراح عشرات الاشخاص من معتقلي وسجناء جماعات التطرف الاسلامي من سوريين وغيرهم وخاصة الذين كانوا معتقلين في سجن صيدنايا العسكري، والنقطة الثانية، إهمال ضبط الحدود بما يسمح بمرور كادرات وعناصر من المتشددين الاسلاميين الى سوريا، والنقطة الثالثة، بناء النظام مرتكزات له داخل تلك الجماعات أغلبهم من موقوفين سابقين في سجون النظام، وآخرين كانوا قد تعاونوا مع الاجهزة في العراق.
لقد حولت المعطيات والوقائع المحيطة أنشطة المتشددين الاسلاميين وجماعاتهم الى ثورة مضادة بدل ان يكون نشاطهم في مواجهة النظام على نحو ما يقول بعضهم-، ما أسس لتصادم بين المتشددين وجماعاتهم مع الثورة وتشكيلاتها المدنية والسياسية والعسكرية، وهناك مئات من الوقائع والاحداث الدالة، التي توالت في العامين الآخرين وفي كل المناطق السورية، ما جعل علاقة جماعات التشدد مع عموم السوريين تأخد طابع الصراع، وان يكن بوضعه الراهن أقل مما هو عليه الصراع بين كل منهما والنظام القائم، لكن لا أحد يضمن استمرار الوضع على ماهو عليه.
ورغم الطابع الهجومي لجماعات التشدد الاسلامي في التعامل مع محيطها الشعبي من حيث الزامه باعتقادات وسلوكيات التشدد، ومع محيطها السياسي باعلانها تكفير ماعداها وخاصة دعاة الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، ومحاولتها تهميش واضعاف القوى العسكرية الاخرى بما فيها تشكيلات الجيش الحر، فان تعامل اغلب السوريين معها اتخذ طابعاً دفاعياً اساسه نشاط فكري وثقافي وحركات مدنية وقليل من التظاهرات الاحتجاجية، والسبب الاهم لهذا السلوك "السوري" مركب متداخل، تتشارك فيه نتائج الهجمة التي يتابعها النظام ضد المناطق السكنية قتلاً وتدميراً وضرورة مواجهتها، ووعي السوريين العام ان الصراع ينبغي ان يتركز في المواجهة مع النظام، ومحدودية الامكانات والموارد، والتي ينبغي توجيهها للعيش بدل ذهابها في سياق حروب داخلية.
غير ان الطابع الدفاعي للسلوك السوري العام في مواجهة جماعات التشدد الاسلامي بشعاراتها وممارساتها، يمكن ان يشهد تحولات دراماتيكية، اذا استمرت وتصاعدت نشاطات تلك الجماعات ولاسيما المدعومة بالقوة العسكرية وباستخدام السلاح اداة للفرض والاكراه او اضعاف الاخرين، وهناك مؤشرات على ذلك في عدد من المناطق السورية ومنها الرقة ومناطق في ريف حلب وادلب، اضافة لاغتيالات تم تنفيذها ضد قيادات من تشكيلات الجيش السوري الحر، وهذه التطورات يمكن ان تلعب دوراً في تغيير طبيعة المعركة القائمة مع التشدد الاسلامي، بانتقالها من الطابع الدفاعي الى الهجوم مقابل الهجوم، وهو تطور خطر على عموم السوريين وعلى الثورة السورية بصورة خاصة، لانه يضعف الثورة ويقوي النظام.
ان الخيارات السورية الافضل في المعركة ضد التطرف والتشدد، يمكن ان تتضمن فتح ابواب الحوار والنقاش بشأن التطرف والتشدد الاسلامي، وما يمكن ان ينجم عن حضوره في الواقع السوري، والبحث في الآليات الكفيلة في تخفيف آثار المعركة الراهنة وتحويلها من صراع بالقوة الى صراع ديمقراطي ما أمكن، وهو صراع يمكن ان يتعزز بخطوات أساسية لعل الابرز فيها، تقوية الحراك المدني في المناطق خارج سيطرة النظام، وتحسين مستويات ادارة تلك المناطق، والعمل على توحيد التشكيلات المسلحة ولاسيما المنتمية للجيش الحر تحت قيادة هيئة الاركان، ومن شأنه هذه الخطوات ان تمت ان تلجم الطابع الهجومي لجماعات التشدد، وتدفع الى استعادة طابع الاعتدال والوسطية والتسامح في الواقع السوري، وهو طابع لابد من استعادته لترميم اوضاع سوريا ووضعها على سكة استعادة روحها وحياتها في معركتها لتصفية اثار حرب النظام، والتقدم على طريق المستقبل نحو الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، التي ضحى من أجلها السوريون كما لم يفعل شعب آخر.
  

السابق
هل القرآن لغز محير
التالي
التسوية الحكومية عنوانها الحريري أو مَن يسميه