تحسين شروط الفشل

 في جملة شهيرة له، يدعو المسرحي صامويل بيكيت، الفاشل إلى بذل أقصى جهد ممكن ليكون فشله المقبل «فشلاً أفضل».

تستبعد عبارة بيكيت (المأخوذة من عمله النثري «ورستورد هو»)، ضمناً، وجود «نجاح» يقابل الفشل. الثنائية هذه غير مطروحة. فنحن نسير من فشل إلى آخر، وحياتنا تكتسب معناها بتحسين شروط الفشل المقبل، من دون أمل يخامر الواحد منا باختراق هذه الحتمية من الفشل المستمر والدخول إلى عالم «النجاح» غير الموجود أصلاً إلا في أذهان بعض الواهمين.

تجوز استعارة هذه الرؤية القاتمة في النظر إلى أحوال لبنان واللبنانيين. فشل البلد هذا في الفرصة التي أتاحها له التوافق الدولي على إنهاء حروبه الأهلية والخارجية في عام 1990. كثيرة أسباب الإخفاق اللبناني، من عبء وصاية النظام السوري المتدخل في أصغر صغائر اللبنانيين إلى انعدام الرؤية لمشروع دولة تستحق هذه الصفة. حبر كثير سال في وصف الأزمة التي تعصف بلبنان منذ 2005، تاريخ سحب التفويض الدولي للرعاية السورية للبنان. لكن القليل كُتب أو أعلن عن تغيير النظام السياسي في لبنان وفتحه نحو أفق يخلو من خطر الحرب الأهلية الدائمة.

وليس من مبالغة في القول إن اللبنانيين قد وصلوا إلى المرحلة التي يرفضون فيها مجرد التفكير في إصلاح نظامهم السياسي. ليس كسلاً ولا تعصباً لاتفاق «الطائف» الميت سريرياً، لكن لإدراك عميق يساور أكثرهم باستحالة بحث مسألة تعديل العلاقات الطائفية – السياسية في ظل موازين القوى الحالية. مقولة «السلاح يعيق الإصلاح» تقابلها تهمة «الاستئثار يحول دون تحقيق العدالة». ويفوت أصحاب هذين القولين المذهبيين المستترين، السني والشيعي، أن الإصلاح والعدالة المفقودان لن يظهرا من باطن الأرض بل من عملية سياسية يحضر فيها العنف كخيار وملجأ لدى الطرفين.

وبما أن مستوى العنف السني ليس يُقارن بذاك الشيعي، فالحوار الجدي مؤجل في انتظار بناء السنّة أدوات عنفهم. المسألة لا تتعلق بالنوايا الطيبة واللجوء إلى مؤسسات الدولة ولا بأي رطانة من رطانات التعايش الوطني المحتضر. ملخص المسألة اللبنانية اليوم هو الاختلال في موازين القوى ومن بينها القدرة على التلويح بالعنف لمصلحة الطائفة الشيعية. ويطيب للسنّة تعليق الحياة السياسية الذي يمارسه «حزب الله» وأنصاره، لاتهام الحزب بالتبعية لإيران، فيأتي الرد باتهام مشابه بتبعية السنّة لدول الخليج. تنتهي السياسة هنا ويبدأ الانتظار.

مثال على ما سبق يتجسد في ظاهرة أحمد الأسير. فقد صبّت الظاهرة في اتجاه بناء قوة مسلحة سنية تواجه القوة الشيعية وتُبطل أثرها المهيمن على الدولة. بيد أن الخطأ الكبير الذي ارتكبه الأسير ليس في الوقوع الأرعن في الكمائن الأمنية -المخابراتية التي نُصبت له وقادته إلى مواجهة مفتوحة مع الجيش اللبناني، بل في امتناعه عن توظيف القوة التي كان يبنيها في خدمة مشروع عريض يقوم على تغيير تدريجي لخريطة السلاح والعنف الذي ينطوي عليه، على امتداد لبنان. ربما سيظهر من يستوعب دروس تجربة الأسير ويدرك أن التهديد بالعنف يسير وفق قوانين التوازن اللبناني، المتناغم حكماً مع التوازنات الإقليمية.

بكلمات ثانية، يصعب تصور حصول تغيير ملموس في النظام السياسي اللبناني من دون كسر احتكار طائفة واحدة لميزة التهديد باللجوء إلى العنف لفرض إرادتها السياسية. بيد أن المأساة تطل برأسها مرة ثانية. فكل عنف يعيد إنتاج دولة الطوائف. الفشل في بناء الدولة يسير يداً بيد مع تعزيز وضع الطوائف. ربما يمكن إكمال جملة بيكيت بالقول إن الفشل الأفضل قد يكون فشلاً أعمق.

 

السابق
بروس ويليس: أدركت متأخراً أن العائلة أهم من المال والشهرة
التالي
عن تصغير سوريا وتكبير لبنان