“الفتنة” وكلماتها المعطّلة

عندما تندرج الكلمات كلها في إطار "الفتنة"، فإن الكلمات كلها، "نقدية" كانت أم تعبوية، ستصرف بقانون الحمم البركانية، ولا تُفهم بغير بنوده. كأن للكلمات، كما للإنسان، قدراً مرسوماً…
عندما يحتكر إستنكار "فتنة" قادة "الفتنة" أنفسهم، وبلهجة المذعورين منها، الوديعين بمعاملاتهم، المنصرفين الى رهافة عيش أبناء رعيتهم، وغيرهم من الأبناء، وتكون الكلمات كلها مسخَّرة تلقائياً، أوتوماتيكياً في خدمة "الفتنة"…
عندما تصبح للكلمات قائمة، لائحة، "ربرتوار"، مرتّبة مفروزة ومصنّفة، ومعروف كل منها الى أي "معسكر" تنتمي. وإذا شابها غموض، فلا مشلكة: هناك الجهاز العقلي الجاهز، المخضْرم في معرفته لكيفية فكّ رموز هذه الكلمات، أو كيفية "ترجمتها"، أو "تصريفها" على أرض المذاهب المتناحرة، مثل "الكود" الشعبي الذي تتنقل بواسطته الكلمات من هذا الشاطىء الى ذاك بالكلمات المطابقة لأوضاعها…

عندما تزيح هذه الفتنة "المعتدلين" عن المسرح السياسي، أو تدفعهم الى خلع رداء هذا "الاعتدال" وارتداء عباءة المشيخة المذهبية؛ ليملأوا فراغاً خلّفه فصيل مذهبي متطرف، وهذا ما تقتضيه مصلحتهم السياسية المباشرة، وما تمليه الحاجة الى تعبئة الفراغ، فيصرخ ساعتذاك ذوو الفتنة بأنهم لن يهابوا الفتنة المقبلة على مسرح السياسة الذي لم يعد يطيق المعتدلين…

بل الأدهى: عندما يراهن كل طرف على معسكر بعينه في الثورة السورية التي تحولت الى دمار، عندما يقول واحدهم إنه مع النظام الأسدي، ويجيب الآخر بأنه مع الثوار… فأية ثورة، وأي نظام يقصدون؟ ألا تعوزهم الكلمات هنا؟ أم لأنها كاشفة، فلا مكان لها وسط هذا السجال الدائري الحلَزوني؟ لو كانوا بحاجة إلى هذه الكلمات الثمينة الخارجة عن نطاق هيكلهم اللساني الحديدي، فسيعجبون… لكن هذا مستحيل. مستحيل أن يصفوا أحد المعسكرين بغير كلماتهم، وصفاً علنياً واحداً، فيخرجون عن نطاق مؤازرتهم لهذا أو ذاك من الأطراف السورية المشتبكة. هم على ما هم عليه من "قناعات" وصياغات وشعارات، ربط كل طرف منهم مصيره السياسي الخاص، دون مصير البلد، على ما تستقر عليه موازين القوى السورية. وسط كل هذا الدخان، لا نستطيع أن نعرف بالضبط دقائق الثورة والنظام، مع أنها مقرِّرة لمصيرنا نحن وأصحاب الفتنة من بيننا. وهذه مفارقة الكلمات منها براء.

نحن في قلب الفتنة. ولا يردعنا عن الخوض في أقاصيها غير تلك الكلمات، مثل سقط متاع، نيران متأرجحة، بطيئة، ناقصة، تدور حول نفسها… فنحن ممنوعون من الخوض في الفتنة بالاستعجال الذي تفهمنا به الكلمات. كل المصالح الكبيرة والصغيرة، الوطنية والإقليمية، لا تريدنا أن نستقر على حرب أهلية "كلاسيكية"، كتلك التي عرفناها في القرن الماضي. سنبقى على درجة معينة من عيار رصاصات هذه "الفتنة". أي أنه، في مقابل منع التفجير التام، مسموح لنا أن نتكبّد النقْزات الأمنية والتدهور الاقتصادي والشلل المؤسساتي والهجرة الشبابية. هل يمكن أن يخرج من عقلنا، في هذه الحالة، غير الكلمات التي تدور على نفسها وفي رؤوسنا منذ وقت، في نوع من الترتيب الذي يكاد يكون أبجدياً، وهو محاصر بقلعة الشلل والتعطيل، محفوظ بداخلها، "الردّ" و"الردّ المضاد"؛ فتكون الكلمات فاقدة للروح، معطَّلة كما البلاد، لن تبلغ إلا المزيد من الحدّة والتشنّج، مزيد من الحرارة في الحمى المذهبية الكارهة. ولا يبقى بذلك من حدود لتعطيل الكلمات، وتوريطها في نوع من السماجة الرثة.

لو أحب بعضنا إعادة الروح والمعنى للكلمات، فليوسّع نطاق نظره، الى خارج الأزقة الضيقة التي نغرق فيها. الكلمات في حالتنا تنقذها المسافات الطلِقة والرحابة غير المحدودة للمساحات الأخرى.

السابق
ابو جمرة لعون: ما المستوى الاستراتيجي القائم مع ‘حزب الله’؟
التالي
LBC: القبض على قتلة محمد ضرار جمو وضبط السلاح الذي استخدم في الجريمة