صناعة الخرافة

 حتى الان لم تعتذر صحيفة "التايمز" البريطانية ولم تتراجع حتى عن تقريرها المنشور قبل أيام عن وصول مئات من مقاتلي حركة طالبان الافغانية الى سوريا لدعم المعارضة السورية في معركتها لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، والذي كان واحدا من اغرب التقارير المنشورة في الصحافة الغربية واكثرها إثارة للجدل.

لم يكن احد بحاجة الى انتظار بيانات النفي التي صدرت عن اكثر من جهة معارضة، لكي يتأكد ان التقرير هو من نسج الخيال الغربي الواسع الذي اثبت في التجربة السورية ان شطحاته المتكررة كانت مدروسة وهادفة.. عدا عن كونها اثبتت انحيازه الغالب لمصلحة النظام السوري.

الجريدة نفسها لا تدان على نشر التقرير الغريب، لكنها تلام على عدم التدقيق في محتواه، الذي يوحي بان حركة طالبان الأفغانية هي بمثابة جيش جرار يستطيع تحريك وحداته المقاتلة ونقلها الى جبهات تبعد آلاف الكيلومترات عن قواعدها العسكرية، وعبور حدود او مطارات دولية.. للوصول الى سوريا بالتحديد دون سواها من بقية جبهات الحرب مع أعداء الإسلام والمسلمين.

واللوم يقع أيضاً على الجريدة البريطانية لاحجامها عن متابعة واجبها المهني واستيفاء تقريرها الحصري، بإرسال مندوب الى سوريا او حدودها، إو على الاقل بالتواصل مع جهات سورية معارضة او حتى رسمية، للسؤال عن تحركات ذلك الجيش الأفغاني المصغر المكون من مئات المقاتلين، الذي التحق فجأة بجبهة مشتعلة، ما يمكن ان يؤدي الى تغيير موازين القوى بين طرفيها، بل لعله يمكن ان يغير وجه الشرق الأوسط برمته.

كان يمكن لوجود هذا العدد الضخم من مقاتلي طالبان على الاراضي السورية، حسبما زعمت "التايمز" ان يكون مدويا بل مؤثرا في بلد مثل لبنان ذي الحدود المفتوحة على سوريا وحربها، وما كان بامكان احد ان يخفي وصول او عبور هؤلاء السياح الاجانب، الذين لا يمكن للحدود ولا المنتجعات التركية ان تتسع لهم.. هذا عدا عن ان الجبهات السورية نفسها تضيق بهم، وتميزهم من بين الالاف من المقاتلين العرب الذين يحصيهم الاعلام الغربي يوميا، مع ان عددهم لا يصل الى بضع مئات..

ما فعلته الجريدة صار تقليدا في الإعلام الغربي وتعامله مع الازمة السورية. فهي ليست الخرافة الأولى التي يطلقها ذلك الإعلام ويصدقها ويساهم من خلالها في صناعة الرأي العام وفي صياغة القرار الرسمي الذي لا يمكن لاحد ان يزعم انه كان في مصلحة الشعب السوري وثورته. فقد سبق لجبهة النصرة ومثيلاتها الإسلامية التي تشكل اقل من خمسة بالمئة من قوى المعارضة السورية ان تحولت الى أسطورة، او الى فزاعة، كما صار عدد من مشايخ التطرف والجهل الى رموز الثورة وطلائعها.

تقرير "التايمز" أدى غرضه ووجه إنذارا اضافيا الى المسؤولين البريطانيين والأوروبيين والاميركيين أيضاً الذين كانوا على وشك اتخاذ قرار جديد بتسليح المعارضة السورية.. والمساهمة في معركتها الضارية مع قوات النظام من جهة ومع الكتائب الإسلامية المتطرفة التي توهمت أنها قادرة على فرض خطابها وسلوكها في بعض الانحاء السورية الخارجة عن سيطرة النظام.

مع ذلك فانه لن يكون السهل طرد فكرة وجود وحدات من حركة طالبان الأفغانية في سوريا، او إغفال السؤال عن سبب اختيار تلك الحركة بالذات لتسليط الضوء عليها، في الوقت الذي كانت تستعد فيه للتفاوض مع اميركا على مستقبل أفغانستان في مرحلة ما بعد الانسحاب الاميركي المقرر العام المقبل؟

لكنه سؤال عابر، لا يخفي المهارة الغربية في صناعة الخرافات وتسويقها، واختراع اوجه شبه بين الحالتين الافغانية والسورية، اللتين ليس بينهما من قاسم مشترك سوى الموقف الايراني المؤيد والداعم للنظامين في دمشق وكابول.

 

السابق
14 آذار: قليل من الذكاء
التالي
ماذا لو «بطّل» حزب الله أن يكون حكيماً؟