مَن المستفيد لبنانياً مِن تراجع الإسلام السياسي؟

لم يكن لبنان يوماً ساحة فعل، بل كان دوماً ساحة ردّ فعل، ما جعله باستمرار في موقع المتأثر لا المُؤثر، أي في الموقع المتلقي لحركة الشارع الإسلامي ببعدَيها العربي (التيار الناصري والثورة الفلسطينية) والفارسي (الثورة الإيرانية).

شهد الشارع العربي صعوداً إسلامياً ترافق مع انطلاق الثورات العربية، هذا الصعود الذي لم يُثر أيّ استغراب بل عُدّ بديهياً وطبيعياً من منطلق أنّ الشارع هو إسلامي أساساً، وأنّ كسر القيود الديكتاتورية سيعيد لهذا الشارع حرية حركته السياسية-التعبيرية، وبما أنّ الحركات الإسلامية هي الأكثر جهوزية من الحركات المدنية، فوّضت الغالبيّة الشعبية هذه الحركات مهمةََ العبور بالبلاد من المرحلة الديكتاتورية إلى المرحلة الديموقراطية.

ولكنّ المفارقة التي لم تكن في الحسبان هي عدم قدرة الحركات الإسلامية على المحافظة على المكاسب الهائلة التي حققتها، وتراجع الثقة بها في سرعة قياسية، وذلك بفعل خروجها عن المبادئ التي قامت عليها الثورات العربية.

وقد انعكس الصعود الإسلامي صعوداً إسلامياً في لبنان نتيجة العوامل الآتية:

أولاً، انكفاء تيار "المستقبل" بعد مغادرة الرئيس سعد الحريري البلاد، والحملة المُبرمجة التي قادها محور الممانعة ضدّ هذا التيار التي وصلت إلى حد إخراج الحريري من الحكم والانقلاب على التوازنات المحلية والإقليمية والدولية.

ثانياً، تنامي الشعور بالمظلوميّة لدى الشارع السنّي الذي وجد نفسه محبَطاً ومتروكاً ومكشوفاً أمام محاولات "حزب الله" تدجينه وقمعه وإبعاده عن السلطة وإخضاعه.

ثالثاً، تراجع دور 14 آذار العابر للطوائف والذي أدّى إلى تغليب المشاعر الطائفية على الوطنية.

ولكنّ هذا الصعود الإسلامي اللبناني الذي بدا واضحاً، وجاء كردّ فعل مزدوج خارجي (الموجة الإسلامية) وداخلي (ممارسات "حزب الله") لم ينجح بتظهير قيادات سياسية جديدة قادرة على تمثيله والتعبير عن هواجسه ورفع لواء مطالبه، ومن سوء طالعه أنه انكفأ في بلدان المنشأ قبل أن يتمكن في لبنان من ترجمة تنامي حضوره وانتشاره داخل الندوة البرلمانية، إذ إنه لو تمّت الانتخابات، لكان "المستقبل" مضطراً أخذ هذا المتحوّل بالشارع السني في الاعتبار، وبالتالي التعامل مع هذا المعطى الجديد الذي فرض نفسه بحكم الأمر الواقع.

إلّا أنه من مصادفات التاريخ وحركته، أن تتلقى المنظومة الإسلامية مجموعة ضربات ودفعة واحدة من تركيا أردوغان إلى مصر مرسي وصولاً إلى لبنان الأسير وما بينهما التغيير الجذري في قطر، الأمر الذي جعل هذه المنظومة مأزومة، وأدخلها في حقبة جديدة-طويلة، من شروطها إعادة تقييم كلّ سياساتها ومراجعة خياراتها والمصالحة مع مجتمعاتها التي فقدت الثقة بها وجعلتها تحت المجهر والاختبار مجدداً.

وما حصل في البلدان المصدِّرة سينعكس حكماً على البلدان المستوردة أقلّه من زاويتين: معنويّة وعمليّة، إذ إنه في ظلّ غياب الحاضنة الأساسية والموجة الخارجية تصبح الحركات الإسلامية في لبنان يتيمة، فضلاً عن أنّ اهتزاز صورتها المركزية سيؤدي إلى اهتزازها لامركزياً، وبالتالي الجزء الأكبر من الوضعية الشعبية التي راكمتها ستعيد تموضعها السياسي في اتجاه "المستقبل".

وعلى رغم أنّ الخطاب السياسي المعلن لهذه الحركات لم يخرج عن سياق أدبيات "المستقبل" و14 آذار، باستثناء ميلها للتسلّح الذي يعتبر خطاً أحمر بالنسبة إلى مكوّنات انتفاضة الاستقلال، ولكنّ التجربة أظهرت عدم امتلاك هذه الحركات الخبرةَ السياسية التي يتحلّى بها "المستقبل" انطلاقاً من تجربته الطويلة وكونه يشكل امتداداً للخط الإسلامي التاريخي في لبنان الذي تحلّى باستمرار، على رغم تشدّده في محطات تاريخية معيّنة، بمفهومَي التسوية والميثاقية، هذا الخط الذي يتلاءم مع طبيعة التركيبة اللبنانية التي تغلّب الخيارات المدنية على الدينية، ولكن إذا كان "المستقبل" هو المستفيد الأكبر من ضمور الحركات الإسلامية وتراجعها، إلّا أنّ هذا الأمر لا يعفيه من مسؤوليته في ملء الفراغ في ظلّ تحدّيين: مواصلة "حزب الله" سياسته "الاستكباريّة"، وميل الشارع السنّي إلى التطرّف.

السابق
العراق: خطر الحرب الاهلية
التالي
Twitter تطلق تحديثا خاصاً