اوباما الطائفي

حزيران 2009، أوباما في القاهرة يلقي خطابا في جامعتها العريقة، يبشر باستراتيجيته الجديدة، بإطارها "المفهومي الودّي" الخاص، نقيض البوشية التي كانت، بغزوها للعراق، ترنو الى تصدير ديموقراطيتها. كان أوباما وقتها منتخبا لتوه رئيساً لأميركا، بشعبية عارمة، يلف العالم بإبتسامة الملتزم المسالم، يمحو ما خلّفته البوشية من كراهية تجاه بلاده. قبل القاهرة، مرّ على رسالة خاصة الى الإيرانيين بمناسبة عيد النوروز، ثم خطاب في البرلمان التركي؛ وفي الاثنين يتودّد للشعبيين، ويرطن بهوية كليهما "الوطنية" الخاصة. وعندما وصل الى القاهرة، كان في جعبته خطاب ثالث يتوجه فيه الى "العالم الاسلامي"، لا يذّكر إلا بالفرنسي نابوليون بونابرت وحملته على مصر، منذ قرنين؛ حيث بالغ في الإحتراميات للدين الاسلامي، وفي ذكر آيات قرآنية بعينها، وبالسلام باللغة العربية الخ. خلف هذه المحاكاة الاميركية للغازي الفرنسي، كانت ملامح "المفهوم" ترتسم بشيء من الوضوح: فبعد الفرس والاتراك، بقي المسلمون، العالم الاسلامي. بهكذا تصنيف دخل علينا أوباما نحن العرب ذوي الأوطان والثقافات والهويات المعقّدة المتداخلة. كلنا بعينه كنا "عالم اسلامي"، وإذا تعدّدنا فطائفياً وحسب؛ لا وجود بيننا لتنوعات اخرى…
القليلون جداً وقتها احتجوا على هذا التوصيف الطائفي لهويتنا، هذا الإفقار الفادح لهويتنا؛ ربما لكثرة ما غمر الغزل الاميركي إسلامهم. والأقل منهم رأوا تناقضاً بين هذا التعريف الطائفي لكينوناتنا المواطنية وبين "ليبرالية" رئيس هو أصلا مزيج من التقاطعات الدينية والعرقية والاثنية والثقافية.
وكان لهذه القلِة ما يسند صمتها على أرض الواقع، وما يبرر طائفية الرئيس الاميركي. فالمجتمعات العربية كانت قد "تأسْلمت" الى حدّ بعيد، الى حدّ ان الأنظمة "العلمانية" المزعومة نفسها كانت تضطر للمزايدة عليها؛ وكانت القوى البديلة الوحيدة، تنظيما وعقيدة هي "الاخوان المسلمين". مثل بسيط عن تلك الحقبة التي تبدو بعيدة الآن: ان الاخوان كانوا في الانتخابات التشريعية يرفعون شعار "الاسلام هو الحل"، فيما مرشحو الحزب الحاكم يطالعونهم بشعار آخر "القرآن هو الحل" (من يتصور الآن ان شعارين كهذين يمكن ان يطعما خبزاً؟). تلك هي الأرض التي عبّدها وقتها أوباما بـ"مودّته". فكان ما أرادت: رئيس اميركي "مؤمن"، على غرار نظرائه العرب، يأخذنا على قدّ عقلنا، على قدّ بدائلنا المتاحة، ومعطياتنا على الارض، فينعطف عن بوش الجزار ويستغني عن تصدير الديموقراطية، مقابل انهاء حرب في افغانستان والعراق، ورثها بتثاقل ونكران. بما انهم يريدون الاسلام، فليكن "إسلاما ديموقراطياً"، على غرار المسيحية الديموقراطية أو الإسلامية التركية العلمانية. هكذا راح الاميركيون يستقبلون وفود الاخوان، يجتمعون بقادتهم، ويدعونهم الى المؤتمرات… أحيا أوباما بذلك نغمة الاسلام "الوسطي" و"المعتدل"، بين "إخوان" و"قاعدة"، بل اخترع جناحا "معتدلا" في قلب "طالبان" نفسها… ثم جاءت الثورة، التي وجد الاميركيون في سرقة "الاخوان" لها، وصعودهم الصاروخي الى أعلى سلطاتها… ترجمة عبقرية لـ"مفهومهم" الجديد: إسلاميون سوف يتدمْقرطون مع الإنتخابات والبراغماتية، ويتحولون الى إسلاميين ديموقراطيين، لو حافظوا بمصالحنا. يؤيدون حكما اخوانيا في مصر، كما في سوريا، بالإدعاء نفسه: "منعاً لصعود إسلام القاعدة وجبهة النصرة"….
الآن، سقط الاخوان المسلمون، فشلوا في البروفة الأولى، كما نعلم. فماذا يكون الموقف الاميركي من إزاحتهم إزاحة شعبية، على ما يعتريها من إلتباس عسكري؟ يحتارون، يصدرون البيان ثم توضيح عنه ثم يتلعثمون فيعودون مدافعين عن الشرعية ولا ينسون طبعا "مساعداتهم" في كل تلميحاتهم. فيبدون بذلك كأنهم يبحثون في جنس الملائكة: إنقلاب؟ ناعم أم عنيف؟ ثورة؟ حرب أهلية؟ عسكر…؟ الخ. نظرتهم الطائفية على المحك ويحتاجون الى وقت لإعادة صياغتها. ولكنهم بطيئون، ومصر لا تنتظر، تبدو أسرع منهم في ديناميكيتها وفي فهم وقائعها. أليس غريباً، أن تكون مصر أسرع من الولايات المتحدة؟ ما الذي يتغير؟

السابق
التربية أعلنت مواعيد إصدار نتائج الإمتحانات الرسمية
التالي
لائحة جديدة بمن نعاهم الحزب منذ سقوط القصير في 5/6 ولغاية تاريخه