كي لا تبقى صيدا بوابة للخوف

 الكل خائف. إنها جمهورية الخوف. هذه المشهدية من الخوف يكرسها عملياً توقيع الرئيس العماد ميشال سليمان مرسوم "يكفي خوفاً" في القصر الجمهوري، (28/6) على شكل عريضة رفعها أهالي بوابة المقاومة والجنوب مدينة صيدا، بعد يومين على سقوط المربع الأمني للشيخ أحمد الأسير.

من التمديد.. الى التخوين

ومن حق الرئيس أن يخاف، فهو الأمين والمؤتمن، ويرى بأم عينيه أن جمهورية لبنان تنهار، وهو في سنته الأخيرة. وهو الرافض لمنطق التمديد السائد، بصدق وبصراحة قل مثيلهما. في سنته الأخيرة يرى فخامة الرئيس أن مناطق المربعات الأمنية الحزبية أكثر أماناً من مربع أمن القصر الرئاسي. ويرى أن طعنه بالتمديد لمجلس النواب مردود. وصوته العالي ضد الاعتداءات السورية على البلاد غير مسموع.

ومجلس النواب عينه معطّل وهو أعجز من أن يقر قانوناً للانتخابات أو يعقد جلسة في ظل حكومة تصريف أعمال. ووصل الأمر بأن يرفع أحد نواب "البعث السوري" صوته متهماً الرئيس بـ"الخيانة العظمى"!! ناهيك عن تعطيل تأليف الحكومة، كسلطة تنفيذية وما لهذا من آثار سلبية على مصالح المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية العامة.

بوابة خوف الجنوب.. والسنّة!

ها هي صيدا، تتحوّل خلال أيام الى ساح صراعات مذهبية مفتوحة. بل تحوّلت من بوابة للجنوب والمقاومة الى بوابة للموت والخوف باتجاه الجنوب والمخيمات معاً. بل بوابة لفتنة شيعية سنيّة تستدعي المخيمات استدعاء لجر حروب سوريا الإقليمية الى قلب لبنان، بدءاً من جنوبه.

من أين أتى كل هذا الخوف والتخوّف وتسلل أكثر الى مشاعر السنّة في لبنان؟ بل كيف تسلل هذا الخوف من صيدا، "بوابة المقاومة" وخاصرة جزين، بوابة شيعة الجنوب ومتنفسهم؟!! وتاريخ صيدا يشهد أنها ما بخلت يوماً بدم أو أهل أو بيوت. فكانت بحق قلب الجنوب وبوابة العبور الى فلسطين!!

الإجابة سينقصها الكثير من الصحة من دون استعراض أهم الوقائع التي سحبت الخوف سحباً الى بوابة لبنان الجنوبية. فاتفاق الطائف (1989) قال بجمع سلاح الميليشيات، وحمى ابن صيدا الرئيس رفيق الحريري سلاح "المقاومة الإسلامية"، وغطّاه منذ العام 1996 في المحافل الإقليمية والدولية بشهادات متكررة من أمين عام حزب الله وصولاً الى "الانتصار الإلهي" على الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان (2000).

ولم يمضِ سنوات خمس إلا واستشهد الرئيس رفيق الحريري، واتهمت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أشخاصاً أربعة فسارع "حزب الله" الى حمايتهم لاعتبارهم "أيقونات على صدورنا.. ولن نسلّمهم ولو بعد 300 سنة". هذا الموقف اشتبه على السنّة وجعلهم يشعرون بأنهم مستهدفون برموزهم ومطعونون بكرامتهم، طبقاً للتركيبة اللبنانية. ولم تستطع حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة تنفيذ قرار نقل ضابط من مطار بيروت أو وقف شبكة الاتصالات غير الرسمية. وتحت حجّة حماية سلاح الإشارة للمقاومة الإسلامية جرى اجتياح "حزب الله" للعاصمة بيروت، وبعض بلدات الشويفات، وتطويق السرايا الحكومية، واعتبار ذلك "يوماً مجيداً في تاريخ الأمة". ورفض "الحزب" تنفيذ اتفاق الدوحة، و"بتر" حكومة السنيورة طبقاً للتقليد السياسي والحصص وطالب بـ"الثلث المعطل"، وجرى تعطيل مجلس النواب، بأمر من رئيسه لأكثر من سنة ونصف السنة. ونشر "القمصان السود"، وإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في كانون الأول 2010.

الأسير مولود "حزب الله" الشرعي

إن الصراحة تستدعي القول إن ذلك كله جعل السنّة يشعرون بالدونيّة، والذي زاد الأمور تعقيداً هو اغتيال وسام عيد، المسؤول عن كشف الاتصالات الخلوية، في ملف الشهيد رفيق الحريري. والأهم اتهام شريحة شمالية بغالبية سنيّة بـ"التكفيرية" و"السلفية" بل واتهام نواب صيدا أنفسهم بأنهم وراء دعم المجموعات التكفيرية لشاكر العبسي. ثم اختفت هذه الاتهامات بعد هروب العبسي الى دمشق، وانفضح أنه لعبة سورية. وكان أمين عام حزب الله اعتبر مخيّم نهر البارد "خطاً أحمر" في وجه الجيش!! وكان الشمال كله مع كسر الخط الأحمر، ومع الجيش. وبرزت "شعبة المعلومات" التي كشفت أكثر من 50 شبكة إسرائيلية عميلة ومعها شبكة تخريب سماحة مملوك السورية، والتي أدت الى اغتيال رئيس شعبة المعلومات اللواء وسام الحسن، وقد اتهم "حزب الله" الاحتلال الإسرائيلي بالعملية، بينما أكد الرئيس ميشال سليمان علاقة الاغتيال بكشف شبكة النظام السوري.

نهج "حزب الله" المستغرب استولد ظاهرة الشيخ أحمد الأسير، وجعلها تتنامى في ظل اتهامات في أوساط السنّة لتيار المستقبل، مفادها أن اعتدال التيار كان أحد أهم أسباب استباحة السنّة ومصادرة قرارهم السياسي، خصوصاً بعد أن سارع تيار المستقبل الى إدانة ظاهرة المربع الأمني في صيدا ومعالجة "شقق حزب الله" في عبرا، سياسياً، رافضاً المربعات الأمنية والمظاهر المسلحة وطالب بفرض سلطة الدولة، خصوصاً في الضاحية بعد تنامي ظاهرة "نينجا العائلات المسلحة" التي ظهرت بالآلات من تحت عباءة "حزب الله" وانتشرت في شوارع الضاحية واعتبرها "الحزب" مظاهر مرفوضة ونفى أنه يعلم بوجودها.

هيئة علماء صيدا تتهم

حال الغليان والخوف تجتاح صيدا، وكانت هيئة العلماء المسلمين فيها أوضحت "أن عناصر غير شرعية شاركت في القتال" كما أظهرت بعض الأفلام، واتهمت عناصر من "حزب الله" بتوقيف العديد من الأشخاص موحية أنها عناصر تابعة للجيش. وذكّرت "أن الجيش يسمح لحزب الله بالمرور في البقاع باتجاه سوريا، وأن فرض هيبة الجيش لا تكون على فئة دون أخرى وبكيدية ضد مناطق أهل السنّة". وهددت بـ"العصيان المدني" في هذه المناطق، في حال تجاهل مطالب الهيئة.

"حزب الله" أخلى "شقق عبرا لأصحابها" مباشرة بعد تدمير مربع الأسير الأمني، لكنه لم يتمكن من ضبط عناصر "السرايا" الذين عبّروا عن فرحتهم في الشوارع مع أن بعضهم هم من "سُنّة صيدا"، ومعروفون من أهاليها، بحسب العارفين والمتابعين بدقة لخفايا هذا الملف، ويعتبرون أن الحزب استطاع "تزحيط" الأسير أمنياً للإطباق عليه، وأن توقيت التخلص منه كان مدروساً، في ظل تورّط مقاتلي الحزب في الحرب ضد السوريين الى جانب النظام.

"توقيت إلهي" للقضاء على الأسير

"حزب الله" يعرف أن أي خلل في سير المعارك ونتائجها ميدانياً في سوريا قد يُحاصر الحزب جغرافياً ويصبح غير قادر على الوصول الى الجنوب. وقد يصل الى عملية "خنق" قاتلة، فصيدا عاصمة الجنوب، وهي المعبر الإجباري الوحيد بين البقاع وبيروت من جهة والجنوب من جهة أخرى. حتى أن الطريق عبر المصنع راشيا الجنوب، يمكن أن تكون عرضة للقطع، فيقع "حزب الله" في فخ أمني يجعله مشلول الحركة، فاقداً للمبادرة العسكرية إذا ما خسر النظام السوري حربه ضد شعبه. لأن أهالي البقاع الغربي بغالبيتهم السنيّة يمكنهم قطع طريق المصنع الجنوب، ويكون ذلك بمثابة خطأ استراتيجي قاتل قد فات "الحزب". فكان توقيت اقتلاع المربع الأسيري الأمني أكثر من ضرورة، حتى لا يفقد الحزب متنفّس حركته وتواصله الوحيد مع محافظتي الجنوب والنبطية.

المطلوب الآن خارطة طريق

الصيداويون ومعهم السنّة الآن، يتعاملون مع الواقع كما هو. ما حصل قد حصل، ولكنهم يطالبون الدولة بخارطة طريق للخلاص تبدأ بتحقيق شفّاف يكشف ما حصل. ويسألون: من كان خلف شبكات المدفعية من محيط صيدا، التي صبّت نيرانها على المربع الأمني ومحيطه وخرّبت أحياء المدينة الداخلية؟! وأن يجري الكشف سريعاً عن هويات المسلحين الذين ظهروا في أفلام مباشرة وغير مباشرة مسجّلة، وهم يحملون السلاح ويرافقون أعمال الدهم، والاعتداء على المواطنين، وبعضهم ملتحون وهو معروفون، وما زالوا يتجوّلون في صيدا الى الآن، حسب مصادر في "الجماعة الإسلامية" في صيدا!!

ويجاهر صيداويون كثيرون بأنهم كانوا وما زالوا وسيبقون مع الجيش، ومع قيادته، وأن انتقاداتهم ليست ضد الجيش، لأنه المحامي، ولكن لتحقيق العدل ولإبقاء الجيش فوق الشبهات. وإن حرص الصيداويين والسنّة يبلغ حد المطالبة باستكمال عمليات الدهم في كل المناطق، خصوصاً العاصمة بيروت وجعلها مع ضواحيها منزوعة السلاح، واستكمال ذلك في طرابلس وصيدا لقطع دابر الفتنة وإخضاعها لسلطة الدولة بعيداً من سياسة الكيل بمكيالين. فالخلاص من الاحتقان يكون بالعدل والمساواة بين المناطق. وبالعودة الى جلسات طاولة الحوار التي افتتحها الرئيس نبيه بري (2009) وأقرت منذ جلستها الثانية بحضور أمين عام حزب الله الحالي، ببحث مصير السلاح وإقرار الاستراتيجية الدفاعية كبند وحيد. وهذا ما لا يمكن تطبيقه اليوم إلا من خلال التسريع بتأليف حكومة، بعيداً من المحاصصات، وأخذ مصالح لبنان واللبنانيين بالاعتبار. ونشر الجيش اللبناني وتوقيف أي مسلّح يتجه من سوريا وإليها عبر الحدود، وتثبيت سياسة النأي بالنفس وجعلها ناجزة ونافذة. بهذا وبهذا فقط يزول شبح الخوف، وتنفتح بوابة الجنوب (صيدا) لتكون بحق عاصمة الجنوب والجنوبيين بعيداً من سلطة الشارع، لتحقيق تثبيت سلطة الدولة والعدالة والأمان.

 

السابق
علي عسيران: المطلوب التفاهم بين اللبنانيين لاجتياز هذه المرحلة الحرجة
التالي
إسرائيل قصفت ميناء اللاذقية السوري