اعطونا الاستقرار وخذوا منا ما يدهش العالم!

لقد بات جلياً أنّ الوضع الاقتصادي أسير الواقع الأمني والاشتباكات والتشنجات والنزاعات السياسية وآخرها قانون تمديد ولاية مجلس النواب الذي نسف الديموقراطية، لا سيما وأنّ الأسباب الموجبة المتصلة بالوضع الأمني زادت من حدّة الوضع الاقتصادي نظراً لتداعياتها على الوضع السياحي وعلى المستثمرين والمستهلكين، حيث يشكّل موسم الاصطياف 40% من القطاع السياحي.
كما أنّ الإرتباط العضوي بين الإقتصادين اللبناني والسوري ليس غريباً عى أحد، والملفت أنّ منظمة الإسكوا أشارت في تقرير لها إلى أنّه كلما انخفض نمو الاقتصاد السوري 1%، سيؤدي ذلك تلقائياً إلى انخفاض في نمو الإقتصاد اللبناني بنسبة 0,2%. وذلك جراء تصدير المنتجات الزراعية والصناعية عبر البوابة السورية، إضافة إلى حركة السياحة التي كانت تأتي بالبر، إلى جانب وجود سبعة فروع لمصارف لبنانية في سوريا والتي اضطرت إلى تكوين مؤونة بقيمة 450 مليون دولار كي تحافظ على التسليفات التي تقدمت بها إلى السوق السوري.

إذاً كلما تأزم الوضع السوري سيشهد الاقتصاد اللبناني مزيداً من التأزيم، في المقابل أضاع لبنان فرصة ذهبية نظراً لعدم تمكنه من جذب رؤوس الأموال السورية التي تركت بلادها باتجاه الإمارات العربية المتحدة وتركيا والإسكندرية، بفعل زج لبنان بالأزمة السورية.
واليوم بعدما أصبح ربع سكان لبنان من اللاجئين السوريين الذين يشكلون قنبلة موقوتة، فإنّ هذه المشكلة ستنعكس أيضاً على الإقتصاد لأن العمال السوريين سيزاحمون اللبنانيين على فرص العمل، وقد فاقت نسبة البطالة 34%، ولذا على الحكومة تدارك الأمر قبل فوات الأوان.
فالاقتصاد اللبناني المبني على الخدمات، عرضة للانتكاسات عند أي خضة أمنية، فكيف هي الحال في ظل إنعدام الاستقرار الأمني؟ ولهذا من الطبيعي أن يكون النمو الاقتصادي إلى التراجع لا سيما وأنّ كل المؤشرات تدل على هذا التراجع. إذ سجّل القطاع السياحي تراجعاً بما لا يقلّ عن 20%، فيما انخفضت حركة القطاع العقاري بنسبة 9,6%، أما القطاع المصرفي فيشهد ضغوطات محلية، إقليمية ودولية، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ لبنان يطبّق المعايير الدولية المفروضة على المصارف والشركات المالية لمكافحة تبييض الأموال، بشكل يفوق حتى الدول المتقدمة.

لا شك أنّ هناك ضغوطات لرفع السرية المصرفية في لبنان التي لا يزال يحافظ عليها، إلا أنّ القطاع المصرفي في لبنان راكم على مدى السنوات الماضية مصداقية مكنته من مواجهة أزمتين ماليتين عالمتين، بفضل السياسيات الحكيمة لحاكم مصرف لبنان الذي نجح في تحييد لبنان عن هذه المخاطر.
وفي هذه الأيام، يتمحور الهمّ الأساسي حول كيفية الحفاظ على ما تبقى من اقتصادنا وحماية قطاعاته الأساسية، حيث لا يجوز الاستمرار بهذا الإنقسام السياسي الذي سيؤدي إلى مزيد من التراجع في النمو الاقتصادي، واستطراداً سيزيد العجز وبالتالي الدين العام. إذ للمرة الأولى، تعيد شركة التصنيف العالمية "موديز" النظر في الوضع اللبناني من مستقر إلى سلبي، ما يرتّب تداعيات سلبية لا سيما بالنسبة لإصدارات الخزينة العامة التي ستصبح كلفتها مرتفعة.

من هنا كان التنبيه من خطورة التمديد لمجلس النواب الذي سيؤدي إلى تمديد للأزمة السياسية وليس تفاديها. ولهذا كان من الضروري إجراء الانتخابات النيابية وتشكيل حكومة لتكوين صدمة إيجابية لدى المستثمرين واللبنانيين لإعادة الثقة بالوضع اللبناني، لا سيما وأنّ ثقة المستهلك انخفضت وفقاً لدراسة للجامعة الأميركية بنسبة 37%، كما انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 68%.
وما يزيد الوضع سوءاً هو إحجام المغتربين الذين يشكلون عصب التحويلات الخارجية، عن الإستثمار في القطاع العقاري في لبنان، ما أدى إلى انخفاض بين 20 و25% في أسعار الشقق، فيما يعاني القطاع برمته من انخفاض بنسبة 9,6%.

ويبقى الأمل الوحيد الذي يشكل طمأنينة لدى المستثمر المغترب كما لدى المستثمر اللبناني، في القطاع المصرفي الذي ينمو بوتيرة لا بأس بها، حيث لا تزال قيمة التحويلات تفوق 7,5 مليار دولار، كما أنّ مصرف لبنان ضخّ مبلغ مليار ونصف مليار دولار للقروض السكنية والشخصية، والذي شكّل دفعة في شرايين الخاص، ما أدى إلى الحد من النمو الاقتصادي.

وفي هذا السياق، نشير إلى أنّ تحذيرات دول مجلس التعاون الخليجي تعتبر نكسة بالغة في القطاع السياحي الذي يتكل بشكل أساسي على الأخوان العرب، ولذا ندعو هذه الدول لتفقد الوضع اللبناني عن كثب والتأكد بأنّه ما يزال صالحاً للسياحة، حيث تنعم معظم المناطق اللبناني بالاستقرار الأمني.
كما نحذر من تصدير أدمغة شبابنا، حيث تخرّج الجامعات اللبنانية سنوياً 40 ألف شاب وشابة، في حين لا يتخطى سوق العمل 20 ألف وظيفة. إذاً ثمة 20 ألف شاب عاطلون عن العمل، كما أنّ نسبة البطالة إلى ارتفاع مخيف حيث بلغت مؤخراً 34%. ولذا لا بدّ من تحفيز الاقتصاد والنمو الأمر الذي يرتد على كل القطاعات وخلق فرص العمل، وتالياً ارتفاع القدرة الشرائية وتحريك العجلة الاقتصادية. ولهذا لا بدّ من ضخّ السيولة في شرايين القطاع الخاص لخلق فرص العمل.

أما بالنسبة للدين العام فلا بدّ من تجزئة هذه المسألة، حيث يتخطى الدين عتبة الستين مليار دولار، وهناك خدمة الدين العام، والعجز في الخزينة الذي يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع الدين العام الذي هم تراكم الديون من بداية التسعينات. إذ يسدد لبنان فوائد مرتفعة جداً تفوق الـ7% إذا ما قورنت بالفوائد العالمية أو الإقليمية.
ولذا لا بدّ من إعادة هيكلة الدين العام من خلال التفاوض مع الدائنين، لأنّ كل تخفيض 1% يؤدي إلى تخفيض 600 مليار دولار كلفة على الخزينة. وذلك يعود إلى سوء إدارة الدين للداخل وللخارج بكلفة عالية. ويمكن على سبيل المثال التوجه لدول "البريكس" للاستدانة بفائدة لا تتخطى 4%.

وهنا نورد سلسلة أفكار قد تساهم في الحدّ من المديونية، تبدأ أولاً بوضع قانون للموزانة العامة، إجراء إصلاح إداري شامل يوقف التوظيفات السياسية، ويوقف الهدر سواء في المرافق أو الأملاك البحرية، الحد من التعديات على شبكة الكهرباء الأمر الذي يحسّن الجباية ويؤدي إلى توفير 600 مليون دولار.
كما لا بدّ من دعم القطاعات المنتجة، كالزراعة مثلاً عبر تيسير القروض للمزارعين ومراقبة الجودة لتمكين الانتاج اللبناني من المنافسة عالمياً وتخفيض فاتورة التصدير. كما دعم القطاع الصناعي وفتح مناطق حرة لإنشاء مصانع على أرضها لتكون كلفة التصنيع أقل علماً بأنّ الصناعات اللبنانية وصلت إلى كل العالم بمبادرات فردية.

ولكن في مطلق الأحوال، لا بدّ من طمأنة اللبنانيين، أنّه على الرغم من كل المؤشرات السلبية، إلا أنّنا لسنا أبداً على حافة الإنهيار الاقتصادي، ولكن لا بدّ من التذكير أنّ الثورات الحقيقية هي التي تتأتى من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.
وهنا نقول للقوى السياسية: اعطونا الاستقرار وخذوا منا ما يدهش العالم. ونذكّرهم بأنّ القطاع الخاص هو الذي وقف وراء النمو الاقتصادي في السنوات الماضية حين بلغ 8%.

السابق
خصوبة الرجل تقترن بحاسة الذوق
التالي
الديار: خطة اميركية اسرائيلية خليجية مع 14 آذار لعزل حزب الله