الولايات المتحدة: رحلة في نفق الاوهام

اذا كان يُحتاج الى شهادة اخرى على حقيقة ان سلوك القوة العظمى الامريكية في المجال الدولي يوحي بالضعف والاحجام، فقد برهنت الاحداث في مصر على ان استراتيجية ‘القيادة من الخلف’ التي ابتدعها باراك اوباما ليست سوى تغطية على سياسة ضعيفة ليس فيها أدنى قدر من التساوق، تُجر وراء سلسلة الاحداث ولا تحاول التأثير في مسارها واتجاهها. ليس فقط أن واشنطن استوعبت متأخرة جدا حقيقة أن نظام محمد مرسي أصبح غير شرعي في نظر قطاعات واسعة من المجتمع المصري، بل رد كبار مسؤوليها بعدم اكتراث ظاهر تقريبا، على الدراما العنيفة التي حدثت في القاهرة. في الحقيقة ان كل ازمة تنشب في ذروة ايام العطلة وتُدخل رجّات مُضايِقة الى مسار الغولف أو القارب هي بمنزلة ضيف غير مدعو. ولهذا يمكن ان نتفهم ما يفكر فيه اوباما ووزير خارجيته جون كيري، اللذان تناولا في نهاية الاسبوع الزعزعة التي أصابت مصر على أنها مُضايقة لحظية يمكن اسقاطها من برنامج العمل العام دفعة واحدة.
ليست هذه أول مرة تتم فيها أحداث دراماتية في ساحة الشرق الاوسط في ايام الصيف الساخنة خاصة، وهكذا تُعرض ‘كل العاملين مع الرئيس′ للتحدي الصعب، وهو قطع عطلتهم المقدسة وهي في أوجها. في تموز/يوليو 1990 دعا حاكم العراق صدام حسين اليه سفيرة الولايات المتحدة في بغداد إبريل غلاسبي وأنذرها، في واقع الامر، إنذارا مسبقا بنية غزوه للكويت. ومنحت السفيرة، التي لم تنجح في تلقي توجيهات من المسؤولين عنها في العاصمة الامريكية (كان وزير الدفاع ديك تشيني يقضي وقته في رحلة صيد في جبال روكي، ولم يكن من الممكن الوصول اليه)، صدام حسين ‘الضوء الاخضر’ لغزو الكويت، من دون ان يخشى ردا عسكريا امريكيا، وكل ما عدا ذلك كُتب في كتب التاريخ بالطبع.
من وجهة نظر أوسع يثور لدينا انطباع ان ادارة اوباما لم تستخلص الدروس المطلوبة من فشل سابقاتها في مواجهة الحراك الثوري في ساحة الشرق الاوسط عامة، وفي السياق المصري خاصة. فعلى سبيل المثال آمن الرئيس جون كنيدي من أعماق قلبه قبل خمسة عقود بأنه يمكن تسيير نظام جمال عبد الناصر الثوري في مسار الحداثة والتعدد والاعتدال، وذلك بواسطة جزرة المساعدة الاقتصادية السخية (التي كانت تُمنح لمصر في عهده سنويا).
ورغم الحوافز والاغراءات والتفضلات التي أمطرها كنيدي على رأس عبد الناصر، تبين ان هذا النهج السياسي المصالِح لم يُضعف قيد أنملة التوجه الثوري للنظام، ولم يؤثر تأثيرا كافيا مُعدلا في نهج سلوكه. وبعد أقل من سنتين من دخول كنيدي الى البيت الابيض وافتتاحه استراتيجية ‘العقوبات الايجابية’، لصديقه الجديد عبد الناصر، غرقت جميع الآمال في فيافي اليمن. فلم تسارع مصر باعتبار الامر مشتقا من توجهها الثوري على العهد الناصري، الى التدخل في الحرب القبلية التي نشبت في اليمن في 1962 (الى جانب المعسكر الجمهوري) فقط، بل استعملت في اثناء المعارك السلاح الكيميائي وأفضت بذلك الى النهاية المبكرة لشهر العسل بين واشنطن والقاهرة.
ويثور الآن انطباع ان رئيسا ليبراليا آخر هو اوباما بقي جامدا في نفق الزمن. فرغم انه كان يمكن في السنة الاخيرة الاشارة الى طائفة كبيرة من الاشارات المسبقة التي تشهد على الطبيعة الاستبدادية غير المتسامحة لنظام الاخوان المسلمين في مصر، امتنع البيت الابيض عن أن يشفع جزرة المساعدة الواسعة (ومقدارها 1.3 مليار دولار كل سنة) بعصا أو حتى بعصا صغيرة لمطالب أو تحذيرات. وكانت نتيجة هذا السلوك، كما كانت الحال في عهد كنيدي، أن حظي مرسي بكفالة سخية ودعم سياسي غير مشروط في العاصمة الامريكية، رغم طبيعة حكمه القمعي والاستبدادي السافرة.
إن تمسك اوباما المستمر بالتصور الذي يرى ان الانتخابات ذات العلامات الديمقراطية هي في حد ذاتها ضمان مطلق لاقامة جهاز ديمقراطي وتعددي أضر به وجاء انتباهه من هذا الوهم متأخرا جدا. يمكن ان نأمل ان يصحو العم سام هذه المرة من عالم الأوهام ويعترف آخر الامر بالفرق الكبير بين نموذج الديمقراطية الغربية وطبيعة الواقع في الشرق الاوسط.

السابق
حبيب: السلاح يجب ان يكون في يد الدولة فقط
التالي
درس من مصر