كما لو أنه ستالين

«أستطيع أن أتكلم كما لو أنني ستالين»

هذا ما قاله الروائي الروسي أناتولي ريباكوف، عندما كتب روايته «أولاد أربات»، والذي صوّر فيها مأساة الديكتاتورية الستالينية بكل الآلام التي عاشها الروس في ذلك الزمن الأسود.

القول، جاء حول قدرة الكاتب في تقمص اللغة التي يتحدث بها الديكتاتور، حيث يتطلب التأليف، تذويب الأنا الإنسانية، في الآخر البربري… انها عملية تنتمي إلى حقل الإبداع الأدبي، وليس إلى عالم الابتذال السياسي. فريباكوف ظل نفسه، ولم يأسره ستالين أبداً، فقد دخل فيه لينسفه من الداخل.

في بلادنا، نادراً ما نقع على صوت يمثل صاحبه. هو صوت معار أو مؤجّر أو موظّف. لدينا من يستطيع أن يتكلم كما لو أنه ممثل الله على الأرض، تمثيلا رديئا وسيئاً.. وثمة من يتكلم باسم الأنبياء والرسل، وكأنه من الصحابة والحواري، ويصدق أنه كذلك، مدعياً بالعصمة وحق الأمرة.. وهناك من يتكلّم باسم الدين، كل الدين، ولا رد لكلامه واجتهاده، فهو داعية «مقدس» يطاع ولا يسأل.. وهناك من يتكلم باسم الأئمة ويعتصم بالسلالة المصيبة في خياراتها وإلزاماتها وانعطافاتها. ووسط هذا التمثيل الرديء، بالصوت والقول، لا أحد يحاسب أحداً. لا أحد يسائل أحداً. غير أن هذا الإبرام وهذه النهائية، قسمت الناس إلى فسطاطين، واحد يدعى تمثيل الحق والصواب والخير، والآخر يمثل الباطل والخطأ والشر والادعاء متبادل… ويحدث غاليا، أن يتحوّل الفسطاطان إلى جحيمين رجيمين.

العالم العربي، في بعض بلاده، ينتحر في هذين الفسطاطين، ولا منقذ لأحد من الغلال. ومعظمهم، يتكلم في شؤون الدين، كما لو أنه ستالين.

في لبنان، ينطقون باسم ملوك وأمراء وقادة وعواصم. ولأنهم كذلك، فلا قدرة لهم على اتفاق. السعودية لها من يقول عنها، بدقة وأمانة، وإذا تعذر التقاط المعاني والمرامي، انتدبوا أنفسهم لسؤالها، ويعودون من لَدُنها، معبأين بالشروحات اللازمة، ومزودين بفصائل المال والأقوال. وفي لبنان، من كان ينطق باسم قطر، وكأنه أحد تلامذة ستالين أو القرضاوي، ولما تغيّرت الأحوال فيها، للغز لم يفسّر بعد، بدأت ألسنة «القوّالين» تتلعثم. وقد ظهر التلعثم أولا في الموقف من ربيع مصر، حيث انتقمت السعودية من «الاخوان». من وليّ أمرهم في قطر، وثانيا، بعدما أزاحت المملكة مرشح الإمارة، واختارت أحمد عاصي الجربا رئيساً للائتلاف الوطني السوري.

وفي لبنان، من كان ينطق بطلاقة وفيض كلامي باسم النظام السوري، وقد جاءت أقوالهم ستالينية فظة، تأرجحت بين تهديد ووعيد، وبين تفسير وترجيح، وفق ارتباط القول، بوقائع الدم ومعارك الكر والفر، والتراجع والتقدم… وبسبب الشكوك التي تنتاب المرحلة، تضاءل عدد هؤلاء كثيراً. فقد سبق هذا الزمن، ان كان اللسان اللبناني في معظمه، لساناً سورياً، لا يتوقف عند قول وإشارة القيادة، بل يتخطاها إلى أبعد من ذلك ويضيف عليها. وندر في تلك الحقبة ان انتبهنا إلى صوت مخالف.

كان كل واحد من هؤلاء المقلّدين المتفانين في تذويب ذواتهم، «يتكلم كما لو أنه ستالين».

في «بابل» العراق، حيث برج الطائفية والمذهبية يعلو ولا يعلى عليه، فإن الأقوال تستند إلى حِكَم الماضي، وليس بينها ما ينتمي إلى الراهن، فهناك من ينطق باسم العنصر الكردي، وآخر يتكلم باسم الأئمة، وآخر لا يحيد عن السنة. وفي «بابل» هذه، يتضرج العراق بدمه. لغة الدم تتفوق على لغة الوطن.

قبل هذا الزمن، لم يكن من ناطق غير «القائد». وعندما أعدم صدام حسين، أصبح العراق، سوق عكاظ، وليس فيه من يبدع قصيدة أو قولاً جديداً، كأنه لم يكن ذات يوم، عراق الأصالة والتجديد، عراق الجواهري ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب. هؤلاء أنطقوا العالم بشعرهم. السياسيون اليوم، لا لغة عندهم، غير ما يحفظه قانون الدين والعرق والعنصر والعشيرة.

أصوات العراق، ليست عراقية. فهي «فارسية» بنسبة ما، وتركمانية، بنسبة أقل، وكردية بنسبة مريحة، وسنية بنسبة متوترة، وشيعية بنسبة غالبة.

في هذه الأمة تقليد جديد، يؤيد التقليد القديم، ويضيف إليه، تقليد ستالين، باللغة العربية.

في سوريا، صدح صوت ربيعي منذ عامين ونصف، ما لبث ان اختنق وسط دخان المعارك، وضاع في زحام الخنادق واستشهد وسط «تكبير» أحال كل شيء إلى «تصغير». ربيع سوريا، الصافي بصوته ونبرته ومعاناته وأحلامه، قتلته البنادق. وبتنا لا نسمع عن الربيع شيئاً. جاء من أحتل الساحة، مهدداً بالويل والثبور وعظائم الأمور، محتفيا بـ«النصرة» ولو على باطل أو قتل. جاء من يقلد الجاهلية، ومن ينصّب نفسه أميراً في زقاق، ممثلاً شرعياً للمال والسلاح المتدفق من دول النفط، الذي قال فيه ذات وهج ووعي نادرين، الكاتــب عبد الــله القــصيمي، «يا نفــطـنا، يا عــارنا، يا ذلّنا، يا كل شيء ضدنا».

السلطة في سوريا، ليست بحاجة إلى أقوال. ومن يقول عنها ليس مقنعاً، وهي في الأساس، تفضل الأفعال على الأقوال، والحسم على الحوار، و«استعادة الأرض»، من دون الناس، على جنيف، بأي رقم كان.

غير ان هناك استثناء وسط هذه الستالينية المتفشية: مصر، تتكلم باسمها. شعبها يتقن لغتها. لا تستعير من احد عبارة، تجيد إبداع التمرد والتحرر والريادة. شباب ينطق باسمه. شعب يقود ذاته، وليس بحاجة إلى قائد، قد يتحول إلى ستالين، كل بلحى «أخوانية» وجلابيب سلفية.

الاستثناء المصري معدٍ. هو إنشاء لا إملاء فيه. هو حرية لا تقليد. هو من طبيعة المستقبل، ولا يقلد ماضيه… وقد ترد مصر التحية لتونس. تونس التي غيّرت اللغة برمتها، وقلبت الجملة السياسية إلى نقيضها، قد تعود، وتسترد الروح من ميادين مصر، التي أطاحت «باللجان المركزية الإسلامية».

في العالم العربي من لا يتكلم كما لو أنه ستالين. وهذا كاف، لمسار الحرية والكرامة والعمل.

السابق
الجربا: أسلحة متطورة للمعارضة السورية قريبا
التالي
خطيئة إغلاق إعلام الإخوان