العنف

لا أعرف إذا كان علينا ان نبتهج، من سنوات ونحن نرى الدم على وسائدنا، نراه في أسرتنا وننام ونصحو عليه. ثمة فاتورة دم لكل يوم، عدد من القتلى نغلق التلفزيون عليه ورقم آخر يبدأ منذ أن نفتح عيوننا، عبادة العنف جزء من ثقافتنا اليسارية، ينبغي الإقرار بذلك، لقد تعلمنا منذ شبابنا أن التاريخ يُصنع وسط المعارك ووسط الدماء ووسط المجازر، العنف قابلة التاريخ، هكذا قال ماركس. في الحقيقة أعجبنا في هذا الكلام اننا اعتبرناه دعوة إلى العنف. اننا اعتبرناه بصراحة مديحاً للعنف، كانت هنا جماليات العنف، جماليات الاحتدام والصراع والانهيارات الكبرى، شعراؤنا هم في الغالب شعراء العنف، شعراؤنا الوطنيون يتخيّلون فقط معارك ويتخيلون فقط كثيراً من الدماء يُهرق، كثيراً من الدماء لرسم المستقبل. ينبغي أن لا نغطّي على أنفسنا، بعض الأشعار الأجمل في تراثنا هي قصائد تصور معارك، تصور ميادين مفروشة بالقتلى وقتلى منثورين على امتدادها، ينبغي الإقرار بأن العنف في أصل تربيتنا، ان العنف في أصل مخيلاتنا، في أصل ذائقاتنا.
العمل السياسي الذي اندفعنا إليه في شبابنا كان مدموغاً بهذا العنف. لكنه كان معركة حرة في فضاء حر نفترع نحن فيه من حمى العنف وحرارته الفجر الجديد. لكن المسألة لم تكن البتة كذلك، كان السجن هو مجاورة الفئران وكان التعذيب هو هدية الخصوم وكنا نحارب، ونحارب فقط في الزنازين تحت الأرض ونصرخ تحت التعذيب في الزنازين المعزولة الباردة، هذا ضرب من العنف غير شعري ولا ذكر له في الملاحم التي حفظناها إذ لا تحوي ملحمة منها على صنف من التعذيب، لكن العنف إذا كان شيئاً فهو التعذيب والتشويه والقهر والإذلال. العنف لا يستحق مديحاً، انه لا إنساني، إذا كان من صفة ملازمة للعنف فهي القهر والإذلال، وإذا كان من اسم مناسب للعنف فهو بالضبط الإذلال. من يستقوي عليك يذلّك، مَن يستقوي عليك يهينك، مَن يستقوي عليك يلتذ بصراخك وألمك، الذي شق حنجرة «القاووش» كان بالتأكيد يلتذ بشقها ويلتذ بصراخ «القاشوش» والسكين تحزّ في عنقه، من انتزع قلب خصمه ولاكه كان يلتذ. العنف لا يذل فقط، ولكن صاحب العنف يتحول وحشاً. مع ذلك فإن العنيف قد يكون صاحب طوبى. الطوباويون يلتذّون بالهدم، العنف أيضاً يلذّهم، إنهم يظنون ان الخراب العاصف لا بد ان يحمل عقاباً مناسباً، لا بد ان يحمل وعداً مناسباً، أخشى اننا ندخل في الرحى ولن نعرف كيف نخرج منها.
  

السابق
مَن يراوح في لجة الأزمة حزب الله أم خصومه؟
التالي
قراءات محلّية وإقليمية ودولية للمشهد المصري