في انتظار تقاعد جعجع الرؤيوي

المصريون الذين اتصلوا ببعضهم بعضاً لنجدة النظام المصري بتظاهرة تأييد للرئيس محمد مرسي قبالة السفارة المصرية في بيروت، كانوا يعوّلون على دعم القوات اللبنانية الشعبيّ واللوجستيّ، بعد انهيار منظومة الجناح القطريّ المحليّ الآخر في عبرا، لكنهم فوجئوا، كما فوجئ أنصار أحمد الأسير قبلهم، بقوات «فليحكم الإخوان» تغسل يديها منهم ومن مرسي والاخوان

في الحلقات الضيقة لقوات معراب، يتحدثون عن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بوصفه أحد أعمدة السياسة الأميركية في المنطقة، لا يعطس سفير أميركي في بلادنا إلا يكون فيروسه قواتياً. لا يأكل مبعوث أميركي إلا من طبخ السيدة ستريدا جعجع. ولا ترسم الولايات المتحدة استراتيجية في المنطقة بغير أقلام تلوين معراب. لا يحتاج أنصار القوات إلى أصابعهم لتعداد من يأتي بعد «الشيخ سمير» في التأثر والتأثير في سياسة أميركا، إذ إن مسافة شاسعة تفصله عن وزير الدفاع السابق الياس المر، والنائب بطرس حرب وصديقته نايلة معوض وسائر الآخرين. نقطة ارتكاز الجعجعيين في تسويق عظمة رئيسهم، أميركياً، تكمن في إقدامه حيث لا يجرؤ كثيرون. الولايات المتحدة مع الطائف رغم كل ما يلحقه بالمسيحيين، وجعجع ــــ قبل البطريرك المتقاعد نصر الله صفير ــــ معه أيضاً. تريد الولايات المتحدة شرعية مسيحية لانتخاب رينيه معوض (الذي انتخب بشير الجميل رئيساً وهو نائب عن زغرتا قبل أن يجف دم مجزرة 1978)، فيصبح جعجع مع معوض. لتقل الولايات المتحدة فقط ماذا تريد: تريد تحالفاً رباعياً آنياً تعطى القوات فتاته؟ جعجع مع الفتات. تريد حسني مبارك؟ نحن مع حسني مبارك. تريد أن يحكم الإخوان؟ إذاً «فليحكم الإخوان».
في وزارة الخارجية الأميركية هناك ما ترجمته بالعربية «الخطاب الرسمي» الذي يتعين على كل الموظفين الالتزام فيه، فلا يخرجون عنه سواء إيجابياً في حال تطابقه وآراءهم الشخصية أو سلباً في حال تعارضه أو تناقضه مع مبادئهم. وجعجع، في التصنيفات الأميركية، ليس موظفاً بالطبع بل صديق. وبناءً عليه يمكنه أن يتقاطع مع الإدارة الأميركية في بعض المواقف وأن يتعارض معها في أخرى. لا أحد فعلياً يمكن أن يلزمه بشيء. يكفي خارجية الولايات المتحدة، في أقصى الحالات، أن يتطابق خطاب القوات وخطابها الرسمي. وفي خطابها الرسميّ، لم تقل الخارجية الأميركية: «فليحكم الاخوان»، لكن جعجع التقطها. شعر بأن هذا ما تود الولايات المتحدة قوله ولا تجرؤ على ذلك، فقاله. تتعدى الإشارة هنا موقفاً ورداً ضمن عبارة وجد موقع القوات الإلكتروني ضرورة ــــ أمس فقط ــــ لتوضيح ربطه حكم الإخوان بـ «رغبة الشعوب في ذلك»، إلى سلوك عام قواتيّ جعل الدفاع عن «الإخوان» شغله الشاغل، مستهتراً ومستكبراً ــــ على طريقة الاخوان ــــ بكل المآخذ والملاحظات والمخاوف. لم يكتف جعجع بدور ثانوي في المشهد: فتح أبواب معراب لنواب المستقبل المتشددين أمثال خالد ضاهر حين أقفلها كثيرون. أوفد إعلاميّاً مقرباً منه ليخطب في جمهور الأسير في احتفاله الأول في وسط بيروت. ونشطت ماكينته، عبثاً، لإسقاط خشية مجتمعها من «حكم الإخوان»، فضلاً عن تكريسه «ربيعية» الحكم الاخواني عبر الشعار (المتعوب عليه) الشهير: «ربيع شعوب، خريف عهود»، في وقت أثبتت فيه مصر أخيراً أن أيام حكم الاخوان لم تكن ربيعية أبداً.
وفي انتظار مؤتمر جعجع الصحافيّ، الطويل كالعادة، للتأكيد ــــ كالعادة أيضاً ــــ على صوابية نظرياته، تجنّب نواب القوات في تصريحاتهم العلنية والنقاشات الجانبية أمس التعليق على الخبر المصري، بينما أكثر موقع القوات من وصف جعجع بـ «الرؤيوي»، مثنياً على «دقة وصحة وصوابية» مواقفه لأسباب مجهولة لا علاقة لها أبداً بمسلّة تحت هذا الإبط أو شيء من هذا القبيل. ودليل «الدقة والصحة والصوابية» ربط جعجع وصول الاخوان إلى السلطة ورحيلهم عنها بإرادة الشعوب. فجعجع مع إرادة الشعوب أولاً وأخيراً. هو كان معها، باحترام شديد، يوم كان يؤيد الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ويتغزل بحكمته. وكان معها حين خطفها الاخوان وجلسوا باسمها على كرسيّ مبارك. ومعها اليوم أياً كان الناطق باسمها. وهو مع إرادة الشعبين السعودي والبحريني. تعني إرادة الشعوب، بالنسبة إلى جعجع، حكامهم. والكارثة في نظريته هذه تكمن في استعداده للانقلاب على حلفائه المفترضين بمجرد أن تنقلب شعوبهم عليهم، ظناً منه أن تلك الشعوب إذا استوقفتها يوماً ــــ لأسباب مجهولة غريبة عجيبة ــــ مواقفه ستنسى ما سبقها وسيتبعها. لو قرأ جمهور الاخوان مواقف القوات أمس لشعر بما شعر به أنصار الأسير قبلهم: «أخطأ الإخوان وارتكبوا تجاوزات خطيرة بحق شعبهم». ومن منطلق تصديقها نفسها، وجدت القوات أن مشاركة الأقباط في التظاهرات المصرية الأخيرة «استجابة لدعواتها الى المسيحيين للانخراط في ثورات بلادهم». وكان لافتاً تذكير القوات أمس بتحديد جعجع ثلاثة عناوين لاستمرارية الاخوان في الحكم، هي: الديمقراطية وحقوق المرأة والاقتصاد الحر، متجاهلين سقوط حليفهم المصري المفترض رغم التزامه بالتوصيات الجعجعية.
في النتيجة لن يصارح جعجع الأبعدين بقراءته الخاطئة لما يحصل حوله، واعتقاده ــــ خطأ ــــ أن لحكم الاخوان آفاقاً. ولن يسرّ للمقربين منه بأن الولايات المتحدة لم تعلمه، ولو على سبيل التنبيه، بطيها صفحة «فليحكم الاخوان» والتكويع من تونس إلى مصر، مروراً بالقصير وعبرا، كما فعلت به مراراً في السابق. فهو، كما ذكرنا، ليس موظّفاً في الخارجية الأميركية. وهو، أيضاً، سيتلطى بمبدئيته خلف نظرية وقوفه مع الشعوب (عفواً،الحكام) مهما كانت الإرادة المعلنة رسمياً في أروقة الخارجية الأميركية.
محلياً، بات كثيرون يترقبون حصول عكس ما يتوقع جعجع حصوله. أما استراتيجياً، على المستويين الإقليمي والدولي، فينسى كثيرون حجم «الرؤيوية الجعجعية» التي قادت إلى سجنه عام 1994 واستثنته من مصالحة الرئيسين بشار الأسد وسعد الحريري عام 2009، كلما تبنى جعجع خياراً استراتيجياً اصطدم هذا الخيار في جدار من الباطون المسلح. مشكلته الأولى أن حماسته تمنعه، على غرار الأمير القطري حمد بن خليفة، من إيجاد مخرج آمن له ولجمهوره عند انعطاف «الإرادة الدولية»، والثانية أن حمد بن خليفة… تقاعد.

السابق
شعب مصر وعظمة الإنتصار
التالي
هكذا تختارين شريك الحياة