الجيش هو الحل؟

من ضمن العناوين التي تعلو الصراعات والرهانات التي تجري حالياً في بلادنا ثمة واحد لا يمكن أن يغيب عن مقالة أو تعليق أوحدث. حضوره طاغ بمقدار الطغيان الذي يقال أن شعوبنا تسعى إلى التخلص منه.
لا تمر مظاهرة من دون ترداده ولا حراك. لا ناشط ينساه ولا مناضل. لا كاتب ولا صحافي. لا مقيم ولا مغترب. لا تقوم مرافعة اليوم من دونه ولا تمر رسالة حب حتى من دون ملامسته. نعرج عليه صبحاً ومساء. هكذا فجأة اكتشفت شعوبنا انها لم تعد تستطيع ان تقبل العيش من دونه وبدون الفيء بظله. واكتشف البعض فجأة ان العصر يريد هذا وأن شعوبنا وقبائلنا وطوائفنا لم تعد تقبل ان تعيش محرومة منه. إنه الديمقراطية .
اكتشفت شعوبنا هذا السحر الجميل بواسطة وسائل الاتصال الحديثة والتلفزيونات والاحتكاك المباشر.أو هكذا يقال. وهو سحر ليكن بعلم أي طاغٍ، إذا ما تذوقته مرّة تستطيبه إلى حد لا يعود معه بالإمكان أن تتخلى عنه مهما كان السعر والثمن. والشعوب كالأطفال إذا ما استطابت الشيء راقها وتعلقت به وصار من سابع المستحيلات أن تتخلى عنه. أعزب دهر ولا أرمل شهر كما يقول المثل الشعبي في المشرق. طاب لشعوبنا هواه وصارت له أسيرة يقول بعضنا. وأنا، أعوذ بالله من كلمة انا كما كان يقول أبي، لا أبغي تنغيص عيش احد ولا تعكير صفو قناعة مقتنع.
قبضة الحرية المرفوعة التي صارت مشهورة من اوكرانيا الى يوغوسلافيا مروراً بروسيا وغيرها وصولاً الى بلادنا لها حتماً ما يبررها. وإلا لما رُفعت. حتى أن المثقفين في بلادنا لطالما تعجبوا من طول بال شعوبنا على حكامهم الظالمين.وكان اليأس قد بلغ ببعضهم حدّاً جعلهم يفقدون الأمل من هذه الأمة فراح ينعيها ويفتش فيها عن أسباب تخلفها عن الركب العالمي.
لكن الشعوب تمهل ولا تهمل بحسب المتفائلين من هؤلاء. ولا سيما بعد أن انفجرت الأوضاع في بلادنا. وأخيرا زفر الجميع. واخيراً لحق الشعب العربي، وهنا بيت القصيد، ببقية الشعوب وتبنى القيم الكونية ذاتها التي تشترك جميع الشعوب بتبنيها. أمهلت شعوبنا العربية المسلمة، وهنا بيت القصيد الثاني، أمهلت حكامها ما يكفي لزمنين ودهرين وأكثر لكنها لم تهمل القناعة الكونية في الديمقراطية. لقد تبيّن إذاً لهؤلاء أن العروبة والإسلام ليسا من حيث الجوهر ضد الديمقراطية الكونية.
قرأت في كتب أوروبية عن الثورة الفرنسية التي أعلنت في 1789 في فرنسا والتي أشتهرت بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الإعلان المؤسس لدولة القانون التي تساوي بين الناس عبر القانون الموحد العمومي. قرأت أن الشعب الفرنسي قد اضطر الى انتظار مئة سنة، أي طول القرن التاسع عشر كله، لكي تبدأ هذه الثورة في إرساء مفاهيم المساواة بالقانون بين المواطنين الأفراد. ففي 1901 فقط اصدرت الحكومة الفرنسية قانونا للجمعيات والتنظيمّ. ولم تتخذ العلاقة شكلا قانونيا- العلمانية- مع الكنيسة قبل 1905. وكان لا بد للمرأة أن تنتظر خمسينات القرن العشرين (1944) حتى تكتسب حق التصويت والترشح. أي أن المرأة انتظرت الثورة الفرنسية اكثر من قرن ونصف قبل أن تعترف بها مواطناً فرداً كأي مواطن آخر.
لن أطلب من شعوبنا اليوم كل هذا الوقت لكي تلتقي بالشعوب الأخرى في منتصف الطريق. لن أفعل لعلمي بالطبع أن وسائل التكنولوجيا الحديثة ووسائط الإتصال قد اختصرت بدون شك الزمن كثيراً. لكن هل إلى هذا الحد نجحت شعوبنا في اختصار الزمن؟ قلت في سرّي. لكني فضلت السكوت عن شكّي لكي لا أزعج أصحاب العيد في عزّ فرحتهم. تركتكم تفرحون. لكن ما جرى أمس في مصر، وقد مرّ على الناس المتجمهرة في ساحات المحروسة مرور النصر والانتصار، دفعني لأن أصارحكم بما يجول في خاطري من شكوك.
كتب أحد المثقفين الفرنسيين الكبار المهتمين ببلادنا، كتب على صفحته الفايسبوكية يقول إن ما جرى في مصر ليس انتصاراً للحرية بل هو تكريس لدور الجيوش الإستبدادي التي كانت تحكم بلادنا عشية الربيع العربي. وأضاف أن ما قام به الجيش من إنذار لرئيس جمهورية منتخب بالرضوح للمتظاهرين لم يكن نصرة للديمقراطية بل نوعاً من الإنقلاب عليها. وقد يكون الأمر لا يتعدى الخوف على الاستقرار وتجنب الحرب الأهلية. وبين المصطلحين، الديمقراطية والاستقرار، مسافة كبيرة.
وماذا لو لم يكن رد فعل الشارع نابعا من سواقي الديمقراطية ولا من منابعها؟ الشعب الذي هلل لقرار المؤسسة العسكرية لم يفعل أكثر من التهليل للعودة إلى عشية الربيع العربي. لقد برهنت احتفالية الجمهور التلقائية عن عجزه، في مكان ما، عن الظفر بالديمقراطية بدون الجيش. لقد قال بكل وضوح إن مجتمعنا غير حاضر بعد للديمقراطية. فلا الرابح للانتخابات احترم روحها ونصها. ولا الخاسر بقادر على تعديل ميزان القوى وفرض الديمقراطية بدون المرور بالحرب الأهلية.
إن ما جرى في ساحات المحروسة، بعد تجربة لبنان وديمقراطيته التوافقية وبعد العراق الناسخ للتجربة اللبنانية وبعد اليمن والصلح القبلي الذي ختم ربيعه به وبعد سوريا التي يحاول المجتمع الدولي أن يقنع أطراف حربها بحسن المثال اللبناني، وبعد ليبيا وما يتناهى الى مسامعنا عن حروب قبائلها الجديدة، يدفعني للتساؤل حول مدى صحة التحليل الذي يميل إلى قناعة تتمثل في أن ما يجري لشعوبنا اليوم هو فعلا معركة الديمقراطية ضد الإستبداد. صرت أميل أكثر الى نظرية تعتبر أن شعوبنا، وبعد تجربة الربيع العربي، صارت أكثر استعداداً وطواعية وقناعة لتقبل حكم الجيش الذي يبدو وكأنه الأكثر تنظيما ورقيا منها ومن صراعاتها العصبية البائدة.
لكن من يدري؟

السابق
نتانياهو: ما يحصل في مصر يؤكد ان اسرائيل مستقرة وسط بحر من الطغيان
التالي
تحويل الموقف في مصر يطاول سوريا