الدولة الكومبارس

من تجول في بيروت ليلا خلال عطلة نهاية الاسبوع الماضي لا بد انه لاحظ غياب وهج ليالي الصيف المعتادة التي ترافق صخب بداية الموسم السياحي الذي ينتطره اللبنانيون. ليلة السبت، لم تزدحم مداخل شارع الجميزة، كما ان اجتياز شارع الحمرا من بدايته الى نهايته لم يكن في حاجة (خلافا للقاعدة) الى اكثر من بضع دقائق.

تبخر احمد الاسير لكن الظاهرة لا تزال، اذ انها ليست مسألة شخص او شيخ او فئة هامشية على يمين المعادلة السنية بل انتقلت الى مستوى جديد وحملت معها مزاج هذه الطائفة الى ما لم تكن تتبناه في لبنان حتى في اشد مراحل الحرب الاهلية اي العناوين المتشددة التي تستهدف مباشرة الطوائف الاخرى. فما نراه اليوم ليس الا فوزا تدريجيا لقوى التطرف على قوى الاعتدال، والا كيف نفسر مشهد انزال صورة الرئيسين رفيق وسعد الحريري في طرابلس يوم الجمعة الماضي لترفع في المكان نفسه صورة لأحمد الاسير؟
في المقابل، لا يمكن الا الاقرار بأن لهذا التطرف مبرراته التي تجلت بوضوح ليس فقط في ملف الشقق الامنية التي سلم بعضها للجيش اللبناني بعد المعركة، بل في ما رأيناه من روايات شهود عيان وصور لمنازلهم وابنيتهم في عبرا وحارة صيدا والتي دخلها مسلحون وتمركزوا فيها مستخدمينها مواقع حربية "لمساندة الجيش" الذي قد يكون على علم او جهل بذلك. ان هذه المشاهد والروايات حقيقية وموثقة وتفيد بأن المعركة اليوم هي معركة تطرف ضد تطرف آخر لم يقدر الجيش الا ان يلعب فيها دورا انقاذيا لم يكن لينفذه لولا تعرضه للاعتداء المباشر والصارخ. لكن عملية انقاذ ماء الوجه التي نفذت بحزم، ورغم التأييد الذي لاقته على المستويين السياسي والشعبي، الا انها لا تلغي مشروعية بعض الاسئلة المتعلقة بالتزام الجيش بـ"خطوط حمر" يرسمها له حزب الله من الجنوب (حادثة اطلاق النار على طوافة النقيب سامر حنا في آب 2008 ومتله) الى الشمال (جبل محسن 2013) مرورًا بالضاحية الجنوبية لبيروت التي لا يمكن لأي قوى امنية رسمية دخولها الا بموجب موافقة من الحزب تؤمن له حرية التجول لتنفيذ المهمة.

ان هذه التساؤلات واقعية والاجابة عنها مسؤولية الدولة اللبنانية التي يقع عليها حصرًا واجب تأمين حماية المواطنين من دون اي تمييز سياسي او حزبي او طائفي. لكن هذه الاجوبة لم تأتِ ولن تأتي في السياسة، لأنها تكمن في موازين القوى التي تحكم ارض الواقع. فميزان القوى الداخلي المائل منذ اعوام بوضوح الى "المقاومة" والذي تأقلمت معه الدولة اللبنانية استفز الطرف الطائفي المقابل ودفعه الى التطرف والى الطموح بكسره وليست ظاهرة الاسير وكل مواقفه المعادية لحزب الله ومحاولته تصوير نفسه على انه المرادف لهذا الحزب على الضفة الاخرى الا تعبيرا عن هذه الحالة.

لكن الدليل الاكبر على ان الكلمة اليوم باتت للساحة لا للمؤسسات توقع وزير الداخلية الاسبوع الماضي بأن يواجه لبنان في المرحلة المقبلة خطر اغتيالات سياسية وهجمات انتحارية في تعبير بالغ الصراحة عن مسرحية سريالية من بطولة طائفتين تتناحران تؤدي فيها الدولة ممثلة بحكومة تصريف اعمال دور "الكومبارس".  

السابق
الوجود اللبناني بقطر مصان
التالي
لسان حال سليمان: نحاول ملكا