الثورة السورية والحدود الجديدة

 دلال البزري

عندما شرعتم في الإنخراط بفعاليات الثورة، هل كنتم تتصوّرون بأن جيش بشار الأسد سوف يبلغ هذه الدرجة من الوحشية في تعامله معكم؟"؛ سؤال جالَ على أصدقاء سوريين، وكان إجماعهم بأن "لا وألف لا…!"، لم يتصوروا، وإلا كانوا، في بداية الثورة، تمهّلوا أكثر في اندفاعتهم، كانوا أنصتوا أكثر لنداءات التوسط والتحاور، كانوا احتاطوا، كانوا تنظموا… كانوا… كانوا…. ولائحة الاحتمالات، التي لم تعد الآن مفيدة إلا لملاحظة ان الثورة كانت أشبه بسيل هادر لا يردّ من شدّة حتميته. القليلون من بين هؤلاء الأصدقاء تمتموا وهمسوا كلمات متتالية عن معرفة بطبيعة هذا النظام، عما رأوه في السجون… عن قدر بشاعة الذي يشاهدونه الآن من مقتلة وتدمير، عن الفرق الوحيد بين سكون الأمس وضراوة اليوم، هو في خروج الشراسة من إطار تقتيل معارضين بعينهم الى إطار تقتيل وطن بأكمله… من دون أن ينسوا مجزرة حماه(1981)، التي أحيت شراسة النظام ذكراها….

حسناً، سؤال آخر قد يعين على الفهم: "هل كان بشار الأسد نفسه، مع محيطه الضيق، هل كان يتصور هو نفسه بأنه سوف يكون على هذه الوحشية في مواجهة شعبه؟". "نعم كان يتصور"، أجاب بعضهم بعد تردّد. ودليله تصريحات بشار الأسد في بداية الثورة والتي هدّد الدنيا بأسرها في حال سقط عرشه. ودليل آخر، أو بالأحرى مؤشر، فظائع مجزرة حماه، أيضاً. والد بشار كان أكثر وحشية، على ما يتصورون: لم نعلم بتدمير المدينة على سكانها، لم نكن في الوارد وقتها ولا في الصورة، أساساً. وحده تغيّر النطاق: كانت قوات الأسد تنزل الرجال، كل الرجال، الى الشارع وتصفيهم واحداً واحداً، "من دون السؤال عن دينهم. مسلمون، مسيحيون، لا فرق في القتل". فيستنتجون أن بشار يحمل القتل في روحه وجذره ومن أبيه. إذا، بحسبهم، وضعنا أنفسنا مكانه، لتصورنا من دون عناء سرّه المعلن: كل الهيكل الأمني والمالي على أكتافه الضيقة، يستقر على غريزة بقاء لا تحيا من غير افتراس. الفرق بين حماه واليوم هو التوسع والتغطية. ثم يختمون بالاسترشاد بالنموذجين الروسي والايراني: ما دمره بوتين في الشيشان هو نقطة في بحر بشار؛ بدأ حربه ضد هذا الشعب المطالب باستقلاله، عام 1999، ولم ينتهِ من عملياته العسكرية إلا في العام الماضي. أما دماء المتظاهرين التي اهدرها المسؤولون الايرانيون بواسطة ميليشياتهم، "الحرس الثوري"، في انتخابات 2009، كان يمكن ان تكون أكثر غزارة، لو لم تنتصر قوتهم السافرة على قوة المتظاهرين…
الجواب النقيض على السؤال "هل كان بشار يتصور….؟"، كان "لا"… لم يكن بشار يتصور؛ ودليلهم ضعيف بما فيه الكفاية لينقلنا الى سؤال آخر: إذا كانت كل هذه الأسئلة لا تفضي إلا لتخمينات، أو ترجيحات، وفي أفضل الحالات الى تمرينات ذهنية، فان سؤالاً متفرعاً عنها قد يضيء عليها: "هل كان بشار الأسد، بل هل كانت المنطقة كلها تتصور بأن تهديد النظام بثورة شاملة سوف يقلب هذه المنطقة رأساً على عقب؟". أنظر من حولك، في المحيط المباشر، ماذا ترى؟ دول بأكملها مهدّدة: لبنان، الأردن، تركيا، العراق، كردستان، فلسطين، اسرائيل. كلها يمسّها الزلزال السوري في صميمها، كلها اخترقت حدودها، بشكل أو بآخر، أو أخترقت معاني كيانها، أو التوازنات القديمة التي حمت هذا الكيان وذاك؛ بعضها مهدد بالاختراق الديموغرافي أو التفريغ أو التبادل الديموغرافي. وجميعها ارتفع لديها الهاجس الأمني، مثل إسرائيل، والاردن، متستعيدة عقيدتها الأمنية، أو تعزّزها بمناورات عسكرية تحاكي كل الاحتمالات الممكنة؛ وفي دول أخرى تأخذ المجموعات المسلحة على عاتقها إدارة الأمن، بالمشاركة المباشرة في الحرب السورية، أو بالإمتناع عن هذه المشاركة، تحسّباً. هكذا، تكون سوريا هي حجر الزاوية للمنطقة كلها، قطعة منها تهتزّ، تنهار كلها وتجرّ معها كل من حولها، وربما الأبعد منها. ولكن طبيعة هذه الحجرة انها قائمة على دول: دولة لبنان دولة سوريا… ليس بمعنى "الدولة" التي نشتمها ليلاً نهاراً على غيابها… إنما الدولة بمعنى الحدود الوطنية التي تحدّد الجنسية: لبناني، سوري، تركي… الخ. ومن قال دولاً عنى حدوداً بالدرجة الاولى: حدود لبنان، حدود سوريا… الخ. هذه الحدود، مع الضربة التي تلقاها حجر الزاوية، باتت الآن مفتوحة على بعضها؛ بخجل، بفظاظة، بصراحة، بمشاريع مدروسة، بعفوية، بافتعال… ودائما بمفاجآت ترغمنا على إعادة فتح كتب التاريخ القريب، على التكيف مع سيولة الحدود، على توسيع تصوراتنا "المحلية"، إذا كنا من الساعين لهضم حمم الزلزال أو فهمه… 
تمكّنت الثورة السورية، وطبيعة الردّ عليها، من فتح الحدود بين سوريا الدولة وبين الدول الست المحيطة بها. في الخارطة، تبدو سوريا في الوسط، والبقية على أطرافها. جغرافياً على الأقل، هي القلب، هي المستحوذة على كل إغراءات هذه القوة، والنائية تحت ثقل مأساتها في آن معاً. ما يتقرر في هذا القلب سوف يقرر مصير أبناء الدول الست هذه، المحيطة بها. من هنا عنف الجواب على الثورة المزلْزلة وعلى ارتدادتها. 
بانفتاح الحدود على بعضها، تصبح الدول الست مع سوريا وحدة تحليلية قائمة بذاتها، صالحة لفهم تفاعلاتها وديناميكياتها. ولكن ما تطرحه وحدة هذه الحدود، أيضاً، هو موضوع الهوية: اللبنانيون سبقوا الجميع الى هذا القلق، وتباشير إصابة السوريين بها بدأت تظهر: "ماذا يعني انني سوري؟" يطرح كتابٌ سوريون؛ بعضهم في سرّهم، والآخر علانية. ولن يتأخر سكان انطاكيا والقامشلي والأردن وفلسطين، خصوصاً فلسطينيي سوريا… الى التساؤل نفسه حول هويتهم "الوطنية". اسرائيل طبعاً مستثناة من هذا السؤال، فهويتها محددة جداً، فائضة عن حاجات جيرانها للهوية… وإن كانت، بالزلزال السوري، تعود الى عقيدتها الأمنية القائمة، والاستنفار العسكري المستمر، المعززين، دائماً، لموقع حكامها وسلطتهم.
ما يعني بأن هذه الوحدة الجغرافية عادت الى زمنها الأول، عندما كانت بلاداً واحدة، ولايات عثمانية ذات استقلالات محدودة ونسبية. أي زمن ما قبل سايكس بيكو ونشأة دولنا التي نعرفها ونحمل جنسيتها. نحن أمام مساحة متسعة، تتسلل الى ادراكنا ببطء ولكن بحزم، أوسع من أزقتنا وأضيق من تعريفنا لأنفسنا كمواطنين لدولة بعينها. نعيش الآن على مساحة من الأرض بينها حدود فيها تصدعات وتجاويف وثغرات، أمنية وبشرية، لا نملك فيها من الهوية إلا البدائي منها: الطائفة، القبيلة، والإثنية (العرق). امتدادات الطوائف والقبائل أول الخارقين لهذه الحدود، وهوياتها هي "الأصلح" الآن وسط التهديد المتنامي للهوية الوطنية. لذلك، فان الحرب الطائفية هي الحرب المحورية، وغيرها مناوشات، أو أقنعة غير مقنعة. من يريد ان يشارك الآن في هذه الحرب لا يستطيع ان يفتح جبهة "علمانية" أو "ديموقراطية". انه محكوم بطائفية الحرب. 
ما يفسّر، ولو جزئياً، الوحشية "غير المتوقّعة" لقوات النظام السوري: بدأت الثورة ضده على أساس المواطنة السورية، فجرّها النظام، وبنجاح مذهل، نحو مربّع النزاع الطائفي. لم يكن ممكناً له ان يفعل ذلك ضمن الحدود الوطنية السورية. كان عليه ان لا يتراجع، وإلا انهار، فاختار الحرب الطائفية، مدركاً، أو غير مدرك، بأن توسيع حدودها سوف يغرقنا جميعا في صراع لا يمكن ان يكون الا بشراسة لم يكن يتوقعها، ولا بالتأكيد توقعها خصومه. فوحشية الحرب المذهبية منها وفيها. وبدائلها الآن غير متوفرة.


 

السابق
حين التفت بردى إليّ وحيّاني
التالي
قاووق نوّه بحكمة”عين الحلوة”وحمل “المستقبل” مسؤولية الدماء في عبرا