ميشال سليمان آخر رئيس لمَ لا

منطقي جداً أن يكون ميشال سليمان آخر رئيس لهذه الجمهورية. لا بل منطقي أيضاً أن يكون هذا العهد آخر جمهورية الطائف. مسألة تكشفها الدلالات التاريخية والراهنة. ويرجحها هذا التزامن الغريب الممكن والمتوقع في ربيع عام 2014، بين فراغ رئاسي وحكومة مستقيلة ومجلس نيابي ممدد له.
منطق التاريخ في ذهاب لبنان إلى «جمهورية جديدة»، يؤكد حصول الأمر كل مرة، على إيقاع محركين اثنين متزامنين: أزمة داخلية عنوانها نفاد صلاحية التركيبة المحلية القائمة، مترافقة مع تطور خارجي عنوانه انهيار امبراطورية أو تبدل نظام إقليمي أو دولي ما.
هي القاعدة منذ إمارة القرن السادس عشر، التي نشأت في ظل توازنات داخلية جديدة أوجدها النمو الماروني يومها، مع تبدل النظام الإقليمي بعد حسم الصراع العثماني الفارسي. بعدها كانت القائمقاميتان والمتصرفية نتيجة انفجار التوازنات الداخلية في الجبل، مع تبلور نظام أوروبي أكثر قدرة وتراجع دور السلطنة.
غير أن الجمهوريات اللبنانية «الرسمية» تظهر بوضوح أكبر كيف تكون نهاياتها ومتى يحين موعد آخر رئيس لها. فلبنان الكبير سنة 1920 وُلد من الحرب الأولى ومن قيام نظام دولي وإقليمي جديد، فيما كانت المتصرفية داخلياً قد لفظت أنفاسها. بعده جاءت مزحة «لبنان الاستقلال» سنة 43، متزامنة مع تبدلات مزدوجة مماثلة: الحرب الثانية خارجياً، وتراجع فرنسا عرابة «الجمهورية الأولى» وبروز بريطانيا، ودخول المسلمين محلياً إلى فكرة الدولة الجديدة وبداية انفصال الوجدانين اللبناني والسوري. «جمهورية الطائف» بين 89 و90، قدمت نموذجاً جلياً أكثر لهذه المعادلة. كانت الجمهورية السابقة قد انفجرت قبل 15 عاماً وسقطت في دوامة حروب لا تنتهي. غير أن ولادة الجمهورية الجديدة كان عليها أن تنتظر نضج العامل الخارجي. وهو ما تأمن بفعل ذلك التقاطع التاريخي، بين سقوط الاتحاد السوفياتي بما أوجد النظام العالمي الجديد، وحرب الخليج الأولى بعد اجتياح صدام للكويت واصطفاف حافظ الأسد إلى جانب التحالف الغربي، بما شكل النظام الإقليمي الجديد الموازي. عندها، وعندها فقط، أُعلن عن ولادة جمهورية الطائف ودفن سابقتها في فرمان واحد، تماماً كما تتلى مراسيم قبول استقالة حكومة لبنانية وتكليف رئيسها وتأليف حكومة جديدة، دفعة واحدة بعد إتمام المراحل الثلاث، ولو تباعدت الواحدة عن الأخرى أشهراً.
هكذا يبدو أن أوان جمهورية جديدة قد أزف. فداخلياً بات جلياً ان جمهورية الطائف قد نفدت صلاحيتها و«خدمت عسكريتها»، فضلاً عن كونها منذ البداية مشوبة بعطوبات خُلقية حكمتها منذ ولادتها وبسبب تلك الولادة. وخارجياً يمكن القطع أن الأحداث التي تعيشها المنطقة منذ كانون الأول 2010 إلى وقت آت، لا بد أن تقود إلى نظام إقليمي جديد. فيما أميركا التي أعلن عنها جورج بوش الأب في خطاب احتفاليته الانتصارية بتحريره الكويت، يوم زعم أن آخر أنفاس موسكو باتت تباع في علب صغيرة في محالّ تذكارات السياح… هذه الأميركا قد انتهت بالتأكيد.
يبقى السؤال: هل يمكن على ضوء تجارب توالد الجمهوريات السابقة وتعاقبها، قراءة طبيعة الجمهورية الآتية؟ وهل من المتاح بناءً على سوابق آخر الرؤساء الماضين، استنتاج كيف تكون نهاية آخر رئيس لجمهورية الطائف؟ قد يحتاج هذا المجال إلى جهد أكبر في التحقيق والتدقيق، لكن يمكن إلى حد كبير القول إن كل الجمهوريات اللبنانية الماضية لم تولد من العدم، بل كانت موجودة على نحو جنيني في مشاريع حلول الأزمات التي سبقتها. أو أنها كانت إلى حد ما نتاجاً تراكمياً لمحاولات الخروج من الحروب التي سبقتها، لكن مع بصمة حاسمة للعامل الخارجي. تكفي الإشارة في هذا المجال مثلاً، إلى أن لبنان الكبير سنة 1920 كان موجوداً في خارطة نابوليون وأبحاث الأب لامنس، كما أن لبنان الاستقلال سنة 1943، كانت مسودته قد دُبجت في أكثر من محاولة من ميثاق تقي الدين الصلح إلى أدبيات بشارة الخوري ورياض الصلح، فضلاً عن تأثيرات ميشال شيحا وتأثره الغربي. تماماً كما أن في اتفاق الطائف صياغات من وثيقة موسى الصدر إلى أوراق جنيف ولوزان. وإن كانت بنية الوثيقة الأساسية مأخوذة من مشروع أبريل غلاسبي قبل سنتين من إقرار وثيقة الوفاق الوطني الخالص… وبالتالي ماذا بعد الطائف؟ سؤال يستحق بحثاً مستقلاً، لكن تبقى مفارقة غريبة بين كل آخر عهد ونظامه. فآخر متصرف، أوهانس باشا، كان أكثر المتصرفين فهماً وشبهاً بجوهر كيان المتصرفية، فانفجرت في عهده. وإميل إده كان أكثر الموارنة تجسيداً لفكرة جمهورية الانتداب، فانتهت معه. وليست مصادفة أن يكون أمين الجميل، ابن حزب الصيغة والميثاق، آخر رئيس لجمهوريتهما. فهل يخضع ميشال سليمان للقاعدة نفسها، هو نتاج الوصاية السورية المنقلِب عليها، فهل ينتهي مع عهده إلى انقلاب على ربع قرن من نظام مأزوم ومولد لكل الأزمات؟  

السابق
تسليح المعارضة هل هو نهاية المطاف
التالي
يوم قرر الربيع أن يولد اختار رحِمَ سوريةَ