صيدا الخراب والأسئلة

 صرخت العاملة البنغلادشية، موني، وانهارت أرضاً، كأنها طعنت لتوّها بسكين. في يدها صورة شاب مواطنها: قميص ملون، وفي الخلفية شجرة يانعة. الصورة من النوع الذي يستبقيه المهاجرون في حقائب اليد والجيوب الداخلية للسترات، حيث يحفظون أحبّة وأشواقاً. مات موكشيك. شقيقته موني تلقّت الآن خبره، في الشارع، أمام "مسجد بلال بن رباح" في عبرا – صيدا، وغرقت في نحيبها، بلُغتها التي ما عادت تسعفها في النطق باسم عائلتها، إذ أنفقت الكلمات في هذر الثكلى وعويلها. 

 
كان موكشيك يتولى التنظيفات في المسجد، ولم تكد تمر ثلاثة أشهر على وصوله إلى لبنان طلباً للرزق وأملاً في حياة أفضل، زيّنتها له بالفُرص شقيقتُه المستقرة ههنا قبله، في أرض الموت والهويات المسنونة. أصيب موكشيك في اشتباكات الأحد الماضي. وهو الآن جثّة في مستشفى لبيب أبوظهر. أهو العبث الكامل؟ أم القدر؟
لقي العشرات حتفهم في بحر يومين. جنود وضباط في الجيش اللبناني، مواطنون من صيدا، مسلّحون من جماعة الشيخ أحمد الأسير المتواري الآن، وأجانب. موني أحدث المفجوعين، وجنازات عسكرية ومدنية ما زالت تجوب مدناً وقرى… لماذا؟ من أجل أي قضية؟ لأي شعار، وأي هدف، وأي جدوى؟
 
أسئلة وغبار
أسئلة تبقى معلقة في هواء المدينة، كالغبار الذي لا يني يتصاعد من أبنية مخردقة وسيارات متفحّمة ومتاجر يكنس أصحابها زجاجاً وخسائر. اللافت أن مشهد الخراب يعمّ محيط المسجد الذي تحوّل، بين ليلة وضحاها، إلى متراس، فيما المسجد نفسه مطليّ (حديثاً؟) و"نظيف"، على عكس مئذنته التي يبدو أن الهواء البحري الرطب قشّر طلاءها منذ فترة. ولولا الأسقف البادي تهالكها للعين، من نوافذ بعضها بلا زجاج، لقال ناظر إن أحداً لم يطلق النار من المسجد الشهير أو عليه… وهنا اللغز. 
أما معضلات من نوع: مَن؟ وماذا؟ ولماذا؟ فلها إجابات كثيرة، تشقّ الذهول المعمّم وتكسر وجوم صيدا، المشلولة اليوم، لولا أرتال الملاّلات العسكرية (مغاوير وألوية أخرى) وجموع القوى الأمنية، إضافة إلى مواكب المسؤولين الزائرين، وتجمّعات المواطنين والصحافيين في أرض المعركة. إلا أن أياً من تلك التفاسير لا يروي ظمأ إلى منطق أو تعقّل.
 
بدت عاصمة الجنوب يوم الثلاثاء نموذجاً مصغّراً لصراع ينهش لبنان وسوريا والعراق ومصر وسائر المنطقة. النزاع الذي يُستحضر فيه خطاب عُمرُه 1400 سنة. نعرات عتيقة محصّنة باللاحداثة واللادولة. حرب مجنونة لا يبدو أن أسلحتها الجديدة تناقض مزايدات لاتاريخية في المظلومية.
 
"معتدلون" و"دروع بشرية" 
"أنا سنّي معتدل وضد كل سلاح"، يقول الحاج طلال الرواس، صاحب متجرَين متلاصقَين للألبسة النسائية في محيط المسجد، "لكن كيف يبقى المعتدل معتدلاً؟ أشعر بالغُبن، لا أريد أن تتحكم فيّ طائفة، وحين تغيب المساواة لا بد أن يحدث ما حدث… الفلسطينيون احتلوا لبنان، وانظري أين أصبحوا، التكبّر حتماً سيليه انكسار". الحاج طلال متديّن وملتزم، يصلّي ويصوم ويخاف ربّه، كما يقول. ابنته المحجّبة هنادي، ذات العينين الزرقاوين، تدلّ إلى زجاج مهشّم وبضاعة محروقة، مؤكدة أن الخسارة تتراوح بين 25 و30 ألف دولار… "بس مش مهم"، يقاطعها الحاج، حامداً الله على سلامة زوجته التي احتجزت في المحل يومين. الحاجّة تعاني السكّري والضغط. أقفلت باب المحل واختبأت في الداخل مع موظّفَين اثنين، بلا زاد ولا ماء. ذرفت دموعاً غزيرة على سمّاعة الهاتف التي كانت صِلتها الوحيدة بعائلتها، "وعلى لسانها عبارة واحدة"، كما تروي هنادي، "الله يلطف فينا… الله يلطف فينا"، حتى أثمرت اتصالات الأهل بالجيش، فأخرجها وسلّمها مع الموظفَين اليافعَين إلى الصليب الأحمر.
 
"كان الشيخ الأسير وجماعته خلوقين وطيبين"، يقول الحاج طلال الذي افتتح متجرَيه هنا قبل نحو 12 سنة، بالتزامن تقريباً مع صعود شعبية الأسير وتشييد المسجد. "لكن، منذ سنة تقريباً، بدأت تتكاثر في المنطقة شقق، قيل إن فيها عناصر من حزب الله، وسلاح أيضاً، كثرت الاستفزازات، تحت أنظار الجيش الذي لم يحرّك ساكناً… حتى كان ما كان. لست من مؤيدي الأسير، أكرر وأعيد: أنا معتدل، لست مع السلاح الذي جمعه الأسير، لكني لا أقبل أيضاً سلاح الآخرين، وأؤكد لك أيضاً أن شعبيته الآن زادت". 
 
لينا جابر، ابنة حارة صيدا، احتجزت أيضاً، من الثانية عصر الأحد وحتى العاشرة ليلاً، في مدخل المبنى الملاصق لمحلّين صغيرين يملكهما شقيقها ناجي، ونزلت يومها لتديرهما بدلاً من أخيها المتوعك. "أخذونا دروعاً بشرية"، تخبر لينا، "مسلّحون كثر من جماعة الأسير، أعرف منهم شاباً من صيدا، والباقون بدوا لي غرباء، فلسطينيون وسوريون والله أعلم ماذا… كنا نحو عشرة مدنيين، بينهم أنا وامرأتان أخريان". وتكمل لينا: "صرنا نصرخ نحن النساء، ونبكي، والمسلحون يطلقون النار من مدخل المبنى، على الجيش القابع على بعد 20 أو 30 متراً… هذا المدخل يفضي من جهته الخلفية إلى الباحة الصغيرة أمام المسجد، ومنه تقاطر رجال الأسير بسلاحهم". 
 
جندي يتكئ على بوابة المبنى نفسه، يتدخّل متحدثاً عن استخدام مسلحي الأسير الـ"بي-7"، ومواطن يحكي عن "قذائف هاون" كانت في حوزتهم "لكنهم لم يتمكنوا من استخدامها". ونعود إلى الحديث مع لينا: "راحوا يُسكتوننا قائلين إنهم إذا ماتوا فسنموت معهم، وأنهم يطلقون النار ليحموا أنفسهم ويحمونا والأفضل لنا أن نسكت… كل عمرنا عايشين سوا سنّة وشيعة، أصدقائي في صيدا كثر…". يقاطعها ناجي: "هدّدوني أكثر من مرة، قالوا لأني شتمت الأسير، والأفضل لي أن أرحل، لكني لا أقبل التهديد، طبعاً سأشتمه حين يقول: سنذبح الشيعة وندوس عليهم"… شاب يقترب، آتياً من موقع تجمهر الصحافيين والجنود والمواطنين عند مدخل المسجد الذي غادره للتو وزير الداخلية: "قلت للدركي: شو شعوركم بعدما راح دلّوعكم (الأسير)؟ فصار يضحك، سألته: أنت من وين؟ قال من زغرتا".
 
سيارة… وسيارة
الموقع الذي أتى منه الشاب، ما زال يعج بالكاميرات والمتفرجين والجنود منذ الصباح الباكر الذي خرقت هدوءه انفجارات عدّة وقرقعة أطلال. عملت قوى الجيش على تفجير بقايا القنابل هنا وهناك، لا سيما في المحيط المباشر للمسجد الصغير، وفي داخله حيث يحكى عن أنفاق محفورة تحته. ممنوع الدخول. امرأة تريد تفقد شقتها المحترقة خلف المسجد. ملامحها منقبضة غضباً وحسرة، ترفض التحدث إلى إعلاميين، نبرتها عصبيّة، لكنها ترجو جندياً أن يسمح لفتاة ترافقها بالاقتراب قليلاً لالتقاط "صورة للذكرى". إلى جانبها سيارة شيفروليه، ذهبية اللون، بدت متروكة من ليلة "الحرب الصغيرة". أبوابها مشرّعة، وكذلك غطاءي المحرّك والصندوق. على المقعد الأمامي، كيسان من الخبز، وبطاريات، وأشياء مبعثرة ومكسّرة. ثمة من يقول إنها السيارة التي أطلقت منها مجموعة أسيرية النار على حاجز الجيش، أتى الشبان فيها إلى هنا، وتركوها في أرضها لائذين بالمسجد. وثمة من يقول إنها السيارة التي كانت تحمل معدّات صوتية لبث الأناشيد في مختلف نشاطات "جماعة الشيخ".
 
غير أن سيارة "بي إم دبليو" قريبة، اخترقها رصاص وتناثر زجاجها، هي التي تحظى الآن باهتمام محمد (27 سنة) ووالده: "من يعوّض علينا؟ سمعنا بقرار مجلس الوزراء، لكننا لم نر أحداً حتى الآن". يتفقّد الأب وابنه سيارة العائلة محاولَين تخمين كلفة إصلاحها، ويترددان أيضاً قبل الإدلاء برأي في ما حدث وفي ذكر اسم العائلة التي تدلّ إلى أنهما من أصل فلسطيني. لكنهما يحكيان أخيراً: "لست متديناً، لكني صلّيت الجمعة مرة في مسجد الأسير"، يقول محمد الذي يحمل شهادة في المعلوماتية من الجامعة اللبنانية ويعمل في بيروت، "مرة واحدة دخلت، العام 2004، ولم أكررها، لم أستطع تحمّل التعصّب والتحريض الطائفي الذي سمعته، ولا أجواء الناس". نسأله عن تعليقه على ما قاله لنا، قبل قليل، صاحب الدكان المواجه للمسجد، محمد عبد القواص، عن "شباب الأسير" الذين "كانوا عموماً محبوبين لأنهم منظمون ومهذبون، لا يؤذون أحداً، ولا يضايقون أحداً ولو حتى في موقف سيارة، ولم يتوجّس الناس إلا بعدما بدأ الأسير يدعو إلى التسلّح…". هنا يتدخل أبو محمد، كأنما قرر في النهاية التخفف من كلام أثقل صدره طويلاً: "نحنا بعمرنا ما حبيناهم، منذ اليوم الأول، وليس صحيحاً أنهم لم يزعجوا أحداً". يتردد قبل أن يخبرعن شخص من جماعة الشيخ، استأجر منه محلاً، لكن الأخير أجّره لشخص آخر. اكتشف أبو محمد الأمر، وقبل أسبوعين تقريباً استشار محامياً، فنصحه بالانتظار حتى انتهاء مدة العقد لأنه لن يحصّل بالقانون حقّاً. نسأله لماذا لم يتحدث إلى أحمد الأسير، ليواجهه بتجاوزات لطالما ادّعى الشيخ أنه وجماعته بمنأى عن اقترافها، فيقول: "نحن لا نتحدّث إلى زعران". ويضيف دالاً إلى شقته القريبة من "مسجد بلال بن رباح": "نقطن هنا منذ 12 سنة، فكّرنا مؤخراً في الانتقال، لكن ليس بعد اليوم، ارتحنا".
 
والحال إن أحداً لا يستطيع تأكيد مدّة "الراحة" هذه، أو نفيها. ففي مدينة معجونة بخليط ناسها وأهوائها، مثل صيدا، وفي زمننا المشحون هذا بالذات، يبقى الغد مفتوحاً على تفاعلات أزمة تُدار من دون أن تُحلّ… وفي مرمى النظر، على أحد الجدران، دليل. ملصقات تراكم بعضها فوق بعض: دعاية لحفلة الملتحي فضل شاكر الأخيرة، تحتها إعلان انتخابي قديم لـ"التنظيم الشعبي الناصري"، وتحته صورة تجمع رفيق وسعد الحريري وفؤاد السنيورة.    

 

السابق
وزير الخارجيه السعوديه: مشاركة حزب الله والحرس الثوري الايراني بالقتال في سوريا تعد امرا خطيرا
التالي
كيري:الظروف بسوريا باتت أكثر تعقيدا بعد إنخراط إيران وحزب الله بالنزاع