من أجل تعليم رسمي سوي: دعوة إلى الإصلاح

تُذكّر الحركة المطلبية لأساتذة التعليم الرسمي، بالحركة الطلابية للجامعة اللبنانية في الستينات والسبعينات، عندما كان المدّ اليساري يجتاح جيلاً لبنانياً حالما بتغيير بنية السلطة، وإعادة تركيب هيكل الدولة وفق هندسة سياسية متطابقة مع مواصفات الدولة الاشتراكية.
ربما التحشيد والحضور الفاعل للجسم الرسمي، والنبرة الخطابية المتصاعدة لرموز هيئة التنسيق، عناصر مساهمة في استعادة شريط الذاكرة بمرحلة تاريخية نبتت من احتجاجاتها الشجرة الحزبية الفارعة الأغصان، والتي ظلَّلت الحياة السياسية في لبنان لفترات طويلة، وأمدّت الحرب الأهلية بالحطب اللازم لاستمرار النار الآكلة للبنان.
آنذاك، دخلت السياسة مطالب الطلاب، فأجهضت ما أمكن من ولادات التصحيح، لمسار تعليمي أوهنته الدولة من خلال الإهمال المُتعمد للتعليم الرسمي، لأن الشعارات المرفوعة كانت تتضمن ما هو أبعد من تعزيز التعليم الرسمي، عبر الاهتمام بالمدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية وإنصاف الأساتذة وتوفير الحقوق اللازمة لهم. وكانت تتحرك وفق مشتهيات سياسية تلبي طموحات الأحزاب الناشئة في مواجهة السلطة. لذا تم استنزاف المطالب من خلال تمسك السلطة بنظرية المؤامرة التي تهدد أمن الدولة، واعتبرت أن التظاهرات ما هي إلا مثالب حزبية تريد أن تخرب البلد بمخالب الإهمال مع الحرب الأهلية وبعيدها، دخل التعليم الرسمي دائرة السراب، وأمسى أحد بؤر الفساد الإداري، واحتلت الميليشيات سياسات المؤسسات التربوية، وتحكّمت في كثير من مفاصلها، وأخضعت إداراتها لممثلين حزبيين متحكمين بالجامعة والمدرسة الرسميتين.
في فترة التسعينات، بدأ نوع من تصحيح المسار التربوي في المناهج والإدارات، يطلّ برأسه عالياً، وبانت الجامعة اللبنانية علامة مضيئة في سماء التربية اللبنانية، بعد تحسين شروطها، وبنسب لا بأس بها، وقد مُنح أساتذتها حقوقاً منصفة، وبقيت المدارس الرسمية الابتدائية والمتوسطة دون المستوى المطلوب، وراوحت مكانها، في حين أبدت مدارس المرحلة الثانوية تقدّماً ملحوظاً جعلها منافسة للتعليم الخاص. وبعد نضالات تربوية أخذ المعلم الرسمي حالة مستقرة مادياً ومعنوياً وارتكز إلى سياسات ملبية لشروط مقبولة مقارنة مع الإنتاجية والحياة الحُرّة والغير مفيدة له داخل التعليم الرسمي، إضافة إلى العطلة الصيفية والمدفوعة الثمن. أي أنّ الأستاذ الرسمي يتمتع بحياة تربوية سهلة جعلت منه حاكماً وغير محكوم ويمارس من خلالها الدور الذي يتناسب مع أوضاعه وظروفه الاجتماعية والمادية. هذه النظرة داخل كل عين لبنانية، لأساتذة التعليم الرسمي، وضعتهم في دائرة الحسد لمهنة مفصلة على قياسات خاصة بالمعلمين.
ثمة حكايا كثيرة جنوبية وغير جنوبية عن المعلمين في المدارس الرسمية وكيف أنهم يزاولون مهناً كثيرة في المدارس إلا التعليم فخبرة ضيّق جداً، لأن الأوقات من قبل الأساتذة تصرف على الضيافات المفتوحة، والاهتمام بموائد الفطور، وبعمليات البيع والشراء، أو أنّ الكثير من الأساتذة يعملون سماسرة عقارات، أو يبيعون بطاقات تشريج للهواتف وألبسة، وخبز الصاج والعسل وقمح وعدس إلخ…
ويعتقد الجميع بأن المُدرس الرسمي لا يعمل كما يعمل في المدرسة الخاصة، وأن راتبه مناسب له، بل أن الكثيرين يضعون رواتب المعلمين وخدماتهم الطبية والتربوية في ميزات هدر المال العام.
لذا ثمة صورة قائمة عن أساتذة التعليم الرسمي عند المواطنين، وهم لا يثقون كثيراً بدعواتهم المتكررة بضرورة إنصافهم مادياً وتحسين رواتبهم، وتأتي الضغوطات الممارسة من قبل الأساتذة للضغط على السلطة أعباء مضرّة بالمواطنين من خلال تعطيل مصالحهم وجعل أولادهم في عطلة مفتوحة لمدة مؤثرة على الطلاب نفسياً وتربوياً.
من هنا بدأت أصوات الناس تعلو، بعد أن أخذت المطالب الاحتجاجية لأساتذة التعليم الرسمي طرقاً تؤذي الطلاب وأهلهم، وتضرّ بمصالح المواطنين، وتخدم مصالح السلطة التي توظف الشعارات المطلبية والتحركات العائدة لها والمظاهرات والمسيرات في مجالاتها الانتخابية كما حصل الآن، من خلال استدراك قوى سياسية لضرورة الالتفاف على هيئة التنسيق وسحبها إلى مداولات جدية لتعطيل مناخات الاستقرار وتطيير الانتخابات النيابية.
في البدء عارضت أحزاب رئيسية فكرة الاحتجاج على حكومة الميقاتي حتى لا يتم إزعاج أو محاصرة حكومة الأغلبية، لأن في ذلك تداعيات خطيرة قد تؤدي إلى فكفكة عُرى المتحالف وإعادة موجة التصدّع الداخلي إلى الواجهة الحكومية من جديد. ومن ثم لقطت الاحتجاج وبدأت بتوجيهه وفق شروط أخرى مرتبطة بالأمن والقدرة على تعطيل وشلّ مؤسسات الدولة، وإيقاف عجلات الحياة، لتشييد خشبة كبيرة في لبنان ويختلف عليها اللبنانيون تفويتاً عنهم لاستحقاقات كثيرة.
مما لا شك فيه ولا ريب، أن إعادة هيكلة العمل التربوي، واجتراح وسائل عصرية ومتقدمة لتصحيح المسار التربوي من شأنه أن يعزّز من قوة التعليم في لبنان، ولكن الطرق المتبعة قد تكون وسائل تفيد السلطة ولا تزعجها، ولكنها بالتأكيد تؤذي الكثيرين اللبنانيين التوّاقين إلى لبنان مكتمل الصفات والسمات، في هوية يعمل الكثيرون على تمليعها تلبية لنداءات تريد خلط الإدارات في لبنان، بما ينسجم ويلبي مصالح الطبقة السياسة المسيطرة على لبنان باتجاهاته كافة.
لا يكفي أن تكون محقاً للتعبير عن حقوقك ومطالبك، لأن ذلك طبيعياً ولا يمكن الحال دون ذلك، ولكن الأهم منه هو: كيف نستخدم هذا الحق ونجعله مطلباً لا يضرّ بمصالح العائلات اللبنانية، ولا يجعل من دعوة المعلمين سبيلاً لقطع الأرزاق والطرقات والإخلال بأمن الناس. إذاً نحن أمام استخدام غير ناجح لحق ومطلب يستوجب القيام بأعمال للتعبير عنه، لكنه يعتمد نفس الوسائل التي تعتمدها السلطات تعسّفاً منها في استخدام الحق.
 
 

السابق
هيفاء الأمين: التواصل الاجتماعي هو الإعلام المسيطر
التالي
عين الحلوة.. لن يكون نهر بارد آخر