السفير: الجيش يفك أسر عاصمة الجنوب بدمائه

نجح الجيش اللبناني بدماء عسكرييه والاحتضان الوطني الشامل، في فك أسر عاصمة الجنوب، منهيا أسطورة مربع أمني كاد يجر لبنان إلى الفتنة العمياء من البوابة الصيداوية.

قبض الجيش على مربع "مسجد بلال بن رباح"، أمّا الشيخ أحمد الأسير، فقد اختفى، تاركا خلفه العشرات من أنصاره، قتلى أو جرحى أو موقوفين زادوا عن السبعين.

آخر اتصال رصده الجيش للشيخ المتواري، كان بعيد الثانية من فجر أمس، حين استفقده بعض مناصريه، فتبلّغوا أنه يقاتل في الصفوف الأمامية، وليس على السمع، ليفاجأوا مع ساعة متقدمة فجراً بتوجهه إليهم عبر اللاسلكي، من خارج المجمع، داعيا إياهم الى الصمود والاستمرار في القتال، واعداً إياهم بأن النصر آت وبأن هناك الكثير من المفاجآت التي لم تظهر بعد، وانتهى الاتصال ليتبين أن الاسير قد توارى عن الآنظار، وسط جو من الشائعات جعله يتنقل بين صيدا ومخيم عين الحلوة، ومن ثم سوريا "لإنشاء جيش مقاوم" تحت مسمّى "جيش لبنان الحر".

حُسمت معركة مربّع عبرا، لكن ثمنها كان كبيراً جداً، دفعه الجيش اللبناني بشراكة كاملة مع أهل صيدا الذين عضّوا على الجرح نحو سنتين، وهم يدفعون الثمن من اقتصاد مدينتهم وعلاقتهم بجوارهم، فضلا عن المسلسلات الأسبوعية لقطع الطرق وترويع المواطنين بالرصاص والاعتصامات.

الخسارة الصيداوية، لا بل الوطنية كبيرة، لكن التعزية هي في الاحتضان الوطني السياسي والشعبي للمؤسسة العسكرية ولشهداء الجيش، وفي أن يكون مصير ظاهرة الأسير عبرة لمن تسوّله نفسه اللعب على وتر الفتنة من جهة ومحاولة النيل من المؤسسة العسكرية من جهة ثانية.

ولعل "أمر اليوم" الصادر عن قائد الجيش العماد جان قهوجي، قد صبَّ في هذا الاتجاه بدعوته السياسيين الى سحب ذرائع التفجير، مؤكدا "أن الجيش لن يسكت عن استهدافه".
حُسم أمر "مربّع عبرا"، وباتت ظاهرة أحمد الأسير، من الماضي، وتحوّل "الشيخ الثائر" و"المطرب التائب" الى مطلوبين للعدالة.

ما جرى في صيدا وفي مناطق لبنانية أخرى يطرح أسئلة مشروعة:

من حضن ويحضن ظاهرة الأسير وأخواتها في معظم مناطق لبنان، من وفّر التمويل والتسليح والتجييش الإعلامي والمذهبي ومن شكّل ويشكّل رافعة داخلية وخارجية لهذا النوع من الخطاب التكفيري الإقصائي وهل انتهت هذه الظاهرة أم أن من صنعها سيستولد ظاهرة جديدة؟

من أعطى أمر العمليات، بأخذ البلد الى الفتنة، أولاً عن طريق استهداف "حزب الله" الذي أثبت أنه لن يفرّط بالاستقرار، وثانيا، عن طريق استهداف الجيش لخلق فراغ يمهد للفوضى والفتنة؟

من هو صاحب المصلحة في تشكيل حاضنة للمعتدين على الجيش والساعين الى إشاعة الفلتان على مساحة كل لبنان؟

هل ينطوي قرار استهداف الجيش على خطة خبيثة، لجعله عاجزا أمام المربّعات المذهبية؟

أين هو أحمد الأسير، هل هرب فعلاً أم هـُرِّب، وهل تحول الى شاكر عبسي جديد، ومن هي الجهة التي ترعاه وتؤويه في هذه اللحظة؟

أين تكمن مسؤولية من اعتمدوا التراخي حيال كل ما تعرضت له المؤسسة العسكرية من تحريض، وتكفير، ومطاردات، وهجمات في عكار وطرابلس وعرسال وغيرها من المناطق وصولا الى بيروت؟

أين هي مسؤولية بعض المراجع الرسمية والسياسية التي احتضنت هذه الظاهرة ودللتها وأمّنت لها التغطية وراعت خاطرها أو تقاعست فتركت لها المجال على مدى اكثر من سنتين تنفخ في بوق الفتنة والتحدي؟

هل ثمة من يجرؤ على كشف الرعاة الحقيقيين الذين أمّنوا مظلة وغطاء سياسياً وشرعياً ودينياً ومالياً وإجرامياً لهذه الظاهرة؟

من يحاسب بعض الجهات والمرجعيات التي اكتفت بالمساواة بين القاتل والمقتول وبين المعتدي والمعتدى عليه، أو اعتمدت سياسة الهروب الى الامام من خلال التركيز على أن ظاهرة الأسير ردّة فعل على سلاح "حزب الله"؟

اذا كان الحرص على الجيش صادقا، من يرعى "التضامن المنظّم" مع قاتل العسكريين في صيدا في عدد من المناطق ولا سيما في العاصمة وطرابلس؟

وفي انتظار تبلور الأجوبة على هذه الأسئلة، لا بد من تسجيل الآتي:

أولاً، لولا الغطاء الوطني الشامل، وتحديدا الغطاء السني، الشعبي والرسمي والسياسي والديني، لما أمكن القضاء على هذا الظاهرة الغريبة عن المجتمع اللبناني.

ثانياً، لقد أثبت الجيش أنه بمستوى الآمال التي يعلّقها عليه اللبنانيون، ولو أن الكلفة كانت كبيرة جداً، وستثبت الأيام أن هذه المؤسسة الوطنية، كانت وستبقى عصيّة على محاولات النيل من هيبتها وحضورها في صميم الوجدان اللبناني، وحسناً فعل الرئيس سعد الحريري بتبنّيه علناَ خيار التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي وباقي ضباط المجلس العسكري، على عتبة أسابيع من احتمال تمدد الفراغ الى هذه المؤسسة.

ثالثاً، لقد أثبتت صيدا بمواقفها وتضحياتها، أنها كانت وستبقى مدينة العيش المشترك وعاصمة الجنوب وبوابة المقاومة والتحرير، وها هي تنتصر على الفتنة، فتشرّع أبوابها للجنوبيين، من كل الاتجاهات والأطياف، لعبور شرايينها بكل كرامة وعزّة.

رابعاً، لقد أثبتت المخيمات الفلسطينية، وخاصة مخيم عين الحلوة، أنها أحرص من بعض اللبنانيين، على أمن لبنان، بدليل الاجماع الفلسطيني، على رفع الغطاء سريعا عن بعض المجموعات التي حاولت أن تلاقي الظاهرة الأسيرية بافتعال مشروع اشتباك مع الجيش، لا بل ذهبت بعض الفصائل، وخاصة "حماس" و"فتح" الى حد النزول الى الشارع لمنع جر المخيم الى اشتباك مع محيطه، وهذه النقطة ركّز عليها الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لـ"حماس" خالد مشعل في الاتصالات التي جرت بينهم وبين قيادات لبنانية عدة.

خامساً، ربحت المقاومة بنزع مشروع فتيل تفجير الفتنة في مدينة صيدا وبينها وبين باقي جوارها، غير أن المقاومة مطالبة اليوم وأكثر من أي وقت مضى بأن تعيد صياغة علاقتها بهذه المدينة التي تشكّل عمقاً حيوياً إستراتيجياً لها.

سادساً، لقد خسر مطبخ الفتنة في الداخل والخارج، بعد أن عمل بشكل متواصل على تكبير ظاهرة الأسير ومدّها بالمقوّيات، ولعل العبرة تكمن في قطع الطريق على محاولات بعض المواقع الخليجية الانفعالية، خلق حالات أسيرية جديدة سواء في صيدا أو في مدن لبنانية أخرى.

سابعاً، ليس الربح حكرا على صيدا بل هو ربح لكل لبنان، بدليل أن ما أصاب عاصمة الجنوب استدرج حالة من التوترات المتنقلة في كل المناطق ولا سيما العاصمة، وحسنا فعل الجيش بتكثيف اجراءاته في المناطق اللبنانية كافة التي ستعود اليوم لممارسة حياتها الطبيعية.

ثامناً، لقد أثبتت تجربة صيدا أن الاستقرار اللبناني محصّن بإرادة دولية واقليمية وبقرار أغلبية القيادات اللبنانية عدم الانجرار الى الفتنة وبجرأة الجيش قيادة وضباط وعسكريين في حماية آخر ما تبقّى من مظاهر الدولة، في ظل الفراغ الوطني الشامل.

تاسعاً، يحتم ما جرى على القوى السياسية المعنية، أن تبادر الى مقاربة ملف التأليف الحكومي وفق قواعد مختلفة، بحيث تكون الأولوية لولادة حكومة تطمئن اللبنانيين الى حاضرهم وغدهم بدل التلهّي في معادلات تقود أولاً وأخيراً الى طرح سؤال بديهي: هل بمثل هذه المنافع الضيّقة، نلاقي دماء العسكريين الذين جعلونا نستعيد ثقتنا بمفهوم الدولة؟

عاشراً، صار الأسير من الماضي وقد دفع الرجل ثمن أفعاله وأقواله، فهل يمكن القول أن هذا هو مصير كل من يعاند الوقائع اللبنانية؟

  

السابق
عبرا نهر البارد 2: الجيش يحسم المربع
التالي
المستقبل: ماذا فعل حزب الله في معركة صيدا؟