آخر حصون الدولة

مسلسل التوترات الأمنية والدم الذي يسيل هدراً والشلل الذي يجتاح مؤسسات الدولة، يجعل البلد كله على كف عفريت. يصعب إيجاد حلول لأزمة وطنية كيانية صارت جزءاً عضوياً من الأزمة الإقليمية والتحمت بها. لم يعد ممكناً تحييد البلد عن تداعيات الحرب في سوريا وعليها. لم يعد أي من الأطراف اللبنانيين في وارد مراجعة سياسات متراكمة من تجاهل المصالح اللبنانية لحساب الخارج على وهم توظيف الداخل في التحولات الكبرى الجارية من حولنا.
ما يقع من أحداث منذ سنوات عدة تعيد تكرار إنتاج الحرب الأهلية اللبنانية وتذكر بمحطات تفصيلية كثيرة منها. ونكاد نقع على مواقف وسلوكيات تستنسخ الماضي في طبعات منقّحة ومزيدة وكأننا لم نستفد شيئاً من تلك الدروس ولم نتعلم إدارة نزاعاتنا بصورة أفضل. هناك قوى مستعدة دائماً لتجذير الصراع بالعنف والدم. هناك قوى جاهزة دائماً لتعطيل السياسة بكل أشكالها والخوض في الصراع الدموي الذي يعطيها شرعية الوجود والحضور والفاعلية ويزيد من شعبيتها.
لا نملك الكثير من الأفكار والوسائل لكبح هذا المسار. ضعف «الدولة» وضعف شرعيتها والطعن بحيادها وتشوهات صورتها والشراكة السلبية في تكوينها وقراراتها، يجعلها في موقع العجز الكامل عن إعادة أمور البلاد إلى نصابها الطبيعي. يجب أن نعترف لأسباب ظاهرة وعديدة أن العقد الوطني والشراكة بين الجماعات والحد الأدنى من التسليم بدور الدولة قد تجاوزته الوقائع والتطورات. ولا بديل من ترميم هذا الهيكل وتنظيم هذا الانقسام والاختلاف وإدارة هذه الأزمة بالممكن حصراً للأضرار الفادحة التي باتت تمزق كل النسيج الوطني والاجتماعي وتنشر اليأس القاتل من احتمالات عودة الاستقرار ووقف الانهيار الشامل.
للمتنازعين نتوجه بتأكيد إفلاسهم في حل مشكلات البلد وسقوط مشاريعهم كلها، في وحول الحرب الأهلية. نناشدهم فقط أن يحترموا الحد الأدنى من حق اللبنانيين ببعض الاستقرار والأمن، ببعض الحياة اليومية الخالية من الرعب والذعر والإرهاب ومراعاة حقهم في سلوك الطرقات بحرية وكرامة والبحث عن عيشهم من دون ضريبة دم والوصول إلى أعمالهم ومدارسهم ومستشفياتهم من دون حالات الذل والاستجداء.
البلاد منقسمة على مشاريع كبرى لا حلول لها في المدى المنظور وهي مرشحة لمزيد من الصراعات التي تغذيها الدول الكبرى ومشاريعها، فلن يغيّر في الأمر وجود حكومة مشلولة بهذه الصراعات، فلتكن الحكومة لإدارة هذه الأزمة بأقل قدر من الانقسام وأكثر اهتماماً بشؤون الناس اليومية الحياتية.
هذه الحرب على الجيش ليست من السياسة في شيء. ليس هناك من مشروع سياسي له أي قيمة أو معنى أو مبرر وهو يغتال المؤسسة التي يدّخر فيها اللبنانيون أمنهم ويراهنون دورها في حماية وجودهم وكيانهم. إضعاف هذه المؤسسة هو المعبر السريع لفوضى عارمة لا يسلم منها أحد. المس بهيبتها، الاعتداء عليها، محاولات تطييفها أو تصنيفها جريمة وطنية. هذه حرب على الدولة في جذورها لا خصومات وعداوات سياسية. الاختبار الأكبر لأي موقف وطني الآن هو في دعم هذه المؤسسة من دون شروط ومن دون تردد مهما كانت الاعتبارات السياسية، لأن تفكك الدولة والمجتمع ينطلقان من إسقاط شبكة الأمان هذه. إن توريط الجيش في النزاعات الأهلية لن يبقي ضمانة لأحد حتى لحرية موقفه السياسي، لأمنه، لشرعية اعتراضه، ولمظلوميته ومصداقيتها إذا وُجدت.
هذه لحظة حرجة من تطور المأزق الوطني إما أن ننعطف منها إلى احتواء الأزمة وردها إلى كل أشكال العمل السياسي السلمي الديموقراطي تحت سقف الدستور والقانون ورعاية المؤسسات وإما أن نسقط في هاوية حروب لا يمكن الادعاء أنها حروب الآخرين ولا مؤامرات الآخرين.
نحن اليوم بكل مكونات اجتماعنا السياسي شركاء أصليون متعمدون في ما نقوم به ونعمل له ونخطط وننفذ على حساب هذا البلد وأهله.
  

السابق
روحاني يعرب عن ثقته بأن السلام والاستقرار سيعودان إلى المنطقة
التالي
هل تتغير سياسة إيران مع الرئيس الجديد