اضطهاد طائفة لأخرى

من مكائد هذا الزمان، في لبنان كما في غيره من بلدان "الهلال الخصيب"، أنّ باقة المصطلحات والمفاهيم الحداثية، حين تختلط بالخطاب المذهبيّ العدائي، وتتفنّن في تلبيسه أقنعة وستائر، إنّما تؤدي دوراً نقيضاً لكل ما من شأنه ضبط معدّل العدائية في هذا الخطاب، وأكثر من ذلك، فهي تؤهّل الطرف الأكثر اختباء وراء هذه الأقنعة والستائر، على الاختباء أيضاً وراء سواتر من إنس ومن جماد، والانشراح كالطاووس: فهو في منزلة "ما فوق الفتنة"، وهو القائم بدرء الفتنة بالفتنة في الوقت نفسه، وهو من يستبيح منطق الدولة ليلاً ونهاراً، الى إن يختار "التترّس" بها، ووراء معالمها، حين يستطيب ذلك.
وفي كلّ مرّة، يحدث فيها أمر كهذا، يأخذ قسم كبير من الساسة وقسم كبير أيضاً من المثقفين، وقتاً كبيراً قبل أن يصلوا الى حيث تسمية الأمور بأسمائها. فمن وراء برقع "المقاومة" وبرقع "الدولة"، وكل برقع آخر، ثمة منطلقات أساسية تغفل عنها السياسة المحكي بها، والثقافة الشائعة، على طفيليتها. من هذه المنطلقات، إنّ ما يجري منذ تعليق حرب تمّوز، هو انطلاقة مشروع لتحكيم طائفة بأخرى، بل لتسيّد الطائفة التي تقودها منظمة "حزب الله" على بقية المجموع اللبنانيّ، وأنّ المضادات الحيوية وغير الحيوية، التي أفرزها المجتمع اللبناني، بالمفرد أو بالجمع، في السنوات الأخيرة، لمقاومة هذا المشروع الهيمنيّ المسلّح، الذي يقوده حزب لكن من موقع قيادته لطائفته، هي مضادات لا يمكن الاحتكام لدائرة المصطلحات والمفاهيم الحداثية لإبداء الموقف منها، بشكل مجرّد، ومعلّق في الفضاء، بل إن شرط هذا الاحتكام هو ربطه دائماً، وبشكل مباشر وفطن في آن، على صعوبة ذلك، بالمشكلة الأساسية: ثمّة حزب يقود طائفة ويريد أن يقود البلد كلّه بالشكل نفسه وبالمضمون نفسه الذي يقود فيه طائفته، وبالتالي بشكل يجعل طائفته في موقع التسيّد على بقية اللبنانيين. وهذا الحزب يتفوّق على أخصامه ليس فقط بوفرة العديد والسلاح والجنوح الأيديولوجي، إنما أيضاً بشخصية قيادية كاريزمية استثنائية، نجحت في أن تكون عنواناً لضبط خطابها المذهبي، بما حوّله الى خطاب مذهبيّ ملبّس، بخلطة من بقايا الوطنية والقومية والشعبوية، في مقابل بقاء أخصامه منقسمين بين نمطين خطابيين:
فإما خطاب "معتدل" كثيراً ما يقوده التزامه المعجم الحداثيّ للمصطلحات والمفاهيم بدعوى العبور إليها، الى أن يمتنع عن تسمية الأمور بأسمائها، من حيث هي بشكل نافر، محاولة اضطهاد طائفة لأخرى، وتسيّد طائفة بعينها، بواسطة حزبها المسلّح على بقية الطوائف.
وإما خطاب "متطرّف" يراهن على النعرة المذهبية العارية وحدها في مواجهة هذا المشروع الفئوي الشموليّ، فتكون النتيجة أنّه إذ ينجح في تسمية الأمور بأسمائها نوعاً ما، أي الإشارة ببساطة الى جوهر المسألة، السمكة المستأسدة على الأخرى، إلا أنّه يبدو عاجزاً عن تأمين الحدّ الأدنى من الثقة بأهليته السياسية، حين لا يكون قادراً على تلبيس خطابه المذهبي هو الآخر، بلغة سياسية حديثة.
ففي الصراع المذهبيّ، النافر كثيراً ما يخسر، والتلبيس لا غنى عنه، إذا ما أراد المضطهَدون، على أساس مذهبي أو طائفي أو مناطقي، ألا يستفرد بهم الواحد تلو الآخر.
للأسف، الثنائية القائمة في مواجهة مشروع "حزب الله" الهيمنيّ الفئوي ليست قادرة بهذا المعنى على الجمع بين فضيلتي تسمية الأمور بأسمائها (طائفة تضطهد أخرى، وتباعاً بقية الطوائف) وبين بناء استراتيجية وطنية تستمدّ شرعيتها من القناعة بوجوب إحلال نظام جديد لا مكان فيه لإمكانية اضطهاد طائفة لأخرى، بعد كل ما تجرّعناه من مشاريع حاولت ذلك في عمر هذا الكيان اللبناني الكولونياليّ النشأة.
يبقى أنّ لهذا "الأسف" حدود: فمشروع الهيمنة الفئوية الذي يقوده "حزب الله" قد تكفّل بنفسه حلّ مشكلة استعصاء مشكلته عن الحلّ، وذلك من خلال تورّطه، وتفاقم دائرة تورّطه في سوريا.

السابق
شكر: الاعتداء على الجيش مدخل لتوسيع دائرة الفوضى
التالي
اعتداء على منزل في مصر بسبب مذهبهم الشيعي يثير سخط الشارع