النّازحون – اللاجئون من سوريا والدّولة القاصرة!

 لماذا كلُّ هذا التّهويل والتّحريض والتّباكي في ملفّ النّازحين – اللاجئين من سوريا؟ وهل يعلم المعنيّون أنّ التّمويل أساسيّ، أمّا المؤسّس فقائم في صياغة خطّة وطنيّة لم تزل غائبة حتّى الآن؟ نعم، لبنان لم يعُد يحتمل نكبةً جديدةً على غرار نكبة اللاجئين الفلسطينيّين، لكنّ لبنان مدعوٌّ أيضاً إلى عدم ارتكاب الأخطاء البنيويّة التي شابت تعاطيه مع هؤلاء، إمّا بسبب تجاهلٍ، أو قصر نظرٍ، أو تمييع، أو تواطؤ مصالحيّ، أو تخلٍّ عن السّيادة، أو رهانات انتحاريّة.

في الأردن، وعلى مدى يومين (10-11 حزيران 2013)، وفي منتدى غرب آسيا وشمال أفريقيا الذي يرأسه سمّو الأمير الحسن بن طلال، تنادى حوالى المئة شخصيّة من الباحثين وصنّاع القرار وهيئات الأمم المتّحدة ومنظّمات المجتمع المدني، ليبحثوا في رؤية التّعاطي مع اللّجوء في العالم. وبدا جليّاً تركّز النّقاش حول قضيّتي اللاجئين الفلسطينيّين والسّوريّين، وكان للأخيرين حصّة الأسد في المداولات.

وكم شعرتُ، وتحديداً في متابعتي لمقاربة الأردن وتركيا لهذه المسألة، بقصورنا في لبنان عن إرساء معالجاتٍ موضعيّة في القريب والمتوسّط والبعيد، انطلاقاً من المصلحة الوطنيّة العليا، وبمنأى عن الدّيماغوجيّات المدمِّرة والسِّجالات العنيفة التي لا تقيم لا للبعد الإنساني – الأخلاقيّ، ولا للبعد السّياديّ – الأمانيّ أي وزن، عدا بعض استثارةٍ للغرائز، أو احتكامٍ لتدخّلٍ إغاثيّ بدائيّ، ينأى بنفسه عن المسؤوليّة السّياسيّة والقانونيّة والتنمويّة الاحتوائيّة لكارثة بهذا الحجم.

في أيّ حال لا معنى لِجَلْدِ الذّات، بل إنّ ثمّة حاجةً ملحّة، وكما اشارت حركة التجدّد الدّيموقراطي في توصيات ندوتها حول هذه المسألة (29/4/2013)، ثمّة حاجة ملحّة لبلورة استراتيجيّة وطنيّة متكاملة على المستوى السّياسيّ – الدّيبلوماسيّ، والقانوني – الإنسانيّ، والإغاثيّ – الخدماتيّ، والأمنيّ – السياديّ، والاقتصادي – الاجتماعي، لتفادي انفجار قد يتبدّى حتميّاً، في ما لو استمرّ التّفكير مقصوراً في ما يريد هذا الفريق أو ذاك، بدل ما تستدعيه الحكمة والحزم في آن واحد، لا سيّما أنّ هذه القضيّة باتت مرتبطة بسياقات السِّلم الأهليّ الهشّ أصلاً، كما بوقف انهيار سيادة الدّولة الرّجراجة. والأخيرة لم يتبقّ منها، وبحسب الوقائع، سوى مواقف تاريخيّة استثنائيّة لرئيس الجمهوريّة العماد ميشال سليمان، وحركيّةٍ ممانعة يجب تأطيرها، من الانتلجنسيا والمجتمع المدنيّ – الحرّ منه – ممانعة لأي تدميرٍ منهجيّ لشكل الدّولة المتبقّي، مع اعترافٍ باستباحةٍ متمادية حتّى لهذا الشّكل.

ماذا فعل لبنان وماذا ينوي أن يفعل بقضيّة النّازحين – اللاجئين من سوريا؟ – وإنّ اعتمادي لهذا المصطلح المركّب مستند إلى أنّ لبنان لم يوقّع على اتّفاقيةّ 1951 الخّاصة باللاجئين، ولا على بروتوكولات 1967 اللاحقة لها، ولهذا ارتباطُ بتعاطي لبنان المبدئيّ مع حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيّين المنصوص عنه بالقرار 194، إلى ما نتج عن مرجعيّة مؤتمر مدريد ومبادرة السّلام العربيّة في السّياق عينه. لبنان حتّى السّاعة، أسير التّجاذبات السّياسيّة حول هذه القضيّة، وهو اكتفى بوضعِ خطّة متأخّرة بعد عام ونيّف من التّعامي المقصود، استلهمت التّعاطي التّقليديّ مع أزماتٍ مماثلة، فأسّست على الحاجة إلى التّمويل، وبعثرت الجهود المؤسسية في غياب كادر تنسيقيّ وتدخّليّ فاعل، واسترسلت في العويل والنّحيب، حتّى استسهال تسليم واجباتها لهيئات المجتمع الدّوليّ ومنظّمات المجتمع المدنيّ، دونما حتّى إرساء إطار رقابيّ لذلك.

في المحصّلة فشلت الدّولة اللّبنانيّة في تنظيم وفود النّازحين – اللاجئين كما وجودهم، وفي ذلك معطيات غياب رؤية إداريّة جديّة للمعابر الشّرعيّة، وتفلّت مريع في تلك غير الشرعيّة، ولا يكفي القول بإجراءاتٍ روتينيّة، بل هي الحالة استثنائيّة تتطلّب تدابير خاصّة، تبدأ بالسجلّ الخاصّ، وتمرّ بالبطاقة الخّاصة، خلوصاً إلى ضبط الموضعة الجغرافيّة، بما يعني تفعيل الخدمات وتنسيق الجهود وتأمين الأمان لهؤلاء النّازحين – اللاجئين، كما المجتمعات المضيفة لهم أو المحيطة بهم، كما التطلّع، وبعيداً عن أيّ نفس استغلاليّ أو حلوليّ مكان الطّاقات الاقتصاديّة اللّبنانيّة، التطلّع إلى مكان ابتكار نموذجٍ تعاونيّ مع الطّاقات الاقتصاديّة الوافدة إلينا من سوريا، فتُمسي الأزمة الرّاهنة محفّزاً ذكيّاً لنمو في قطاعات راكدة. وهنا أستدعي دوراً للهيئات الاقتصاديّة.

إلا أنّ الموضعة الجغرافيّة، على المواقف المتناقضة التي نشهدها في مسألة إقامة مناطق إيواء مؤقّتة لهؤلاء أو عدمه، قد تكون بيت القصيد في أي ّ بحثٍ حول استراتيجيةٍ وطنيّة. فالفوبيا اللّبنانيّة حول التّواجد الفلسطينيّ، والمحقّة في بعض بنيتها الجغرافيّة – التّاريخيّة – السّوسيولوجيّة – الأمنيّة – من تسمية “مخيّمات”، قد لا تصحّ في هذا السّياق، إن أحسنت الدّولة اللّبنانيّة، ولو متأخرّة، تنظيم وفود ووجود هؤلاء بالتّنسيق مع الإقليم، وتحديداً الأردن وتركيا والعراق، بما يعني تعميق مفهوم تقاسم الأعباء، كما بحوارٍ علميّ متماسك على المستوى الدّيبلوماسيّ، أكان مع جامعة الدّول العربيّة أو مع الأمم المتّحدة.

إذ إنّ حيّزاً أساسيّاً من ديمومة الاستقرار الدّاخليّ والإقليميّ، بمعنى الحدّ من انتقال شظايا الثّورة السّوريّة الكيانيّة إلى الإقليم، وتحديداً لبنان والأردن، بات مرتبطاً عضويّاً بفاعليّة بتنظيم وضع النّازحين – اللاجئين، وتوفير الخدمات الأساسيّة لهم بالمعنى الاستشفائيّ والتربويّ عدا ذاك الغذائيّ. كما أنّ هذا الاستقرار بات مرتبطاً عضويّاً أيضاً بحماية المجتمعات المضيفة، وتمكينها من تحمّل أعباء هذا النّزوح – اللّجوء الذي يبدو إلى تفاقم. ومناطق الإيواء المؤقّتة، الممكن أن تقوم في مناطق تُختار بعنايةٍ، في انتظار قيام مناطق آمنة في سوريا، أو التّوافق على إنشائها في مواقع حدوديّة عازلة، ليست أبداً من قبيل التّخطيط العسكريّ كما يُصرّ البعض على الإدلاء علناً، بخلاف ما هم مقتنعون به، بل حتّى ما يتداولون به في مجالس خاصّة، بل هي من سلامة قرار توفير الكرامة لهؤلاء النّازحين – اللاجئين، كما تسهيل مجريات نزع فتائل الاختراقات الأمنية، والتّشتيت المجتمعيّ، ناهيك بالإعداد لعودةٍ محتملةٍ منظّمة، في ما لو توافرت مقوّماتها، إمّا بتسويةٍ سياسيّة، أو لاعتبارات إنسانيّة بحتة.

مهما يكن من أمر هذا التّداعي المدوّي لتعاطي الدّولة اللّبنانيّة مع قضيّة النّازحين – اللاجئين من سوريا، والذي يبيّن أنّ الأمور باتت في حدود الإعجاز عن التّدخل السّليم، فإنّ استراتيجيّة وطنيّة مرفودة بإرادة سياسيّة يقودها رئيس البلاد، وهو المؤتمن على الشرعيّة الباقية، أمست بحكم الإلحاح الكيانيّ، ليس بمعنى بعض المقاربات الدينوغرافيّة الخبيثة، بل بمعنى حماية لبنان سيادته وسلمه الأهلي من ناحية، واحترام إرثه الحضاريّ في صون حقوق الإنسان.

في الأردن، خلال نقاشات منتدى غرب آسيا وشمال أفريقيا، شعرت أنّ ثمّة جهداً رياديّاً تشبيكيّاً بين الجهود الوطنيّة والإقليميّة والدّوليّة، حتّى البحث في إمكان طرح هذه المسألة كبندٍ أولويّ على أجندة الجمعيّة العمومية للأمم المتّحدة في أيلول المقبل ما يوازي فكرة عقد مؤتمر دوليّ مخصّص لهذه المسألة، وشعرت أيضاً بتماسك بين الدّولة ومجتمعها المدنيّ، لاستشعارهم واجباً وطنيّاً… ليتنا نرتقي إلى ذلك عندنا!

 

السابق
شطح: وضع حزب الله “شاذ” وعليه تغيير نفسه ووجوده بسوريا خطر داهم
التالي
الانتحار الطائفي: حرب السنة والشيعة