فضل الله للمسؤولين: قوموا بواجباتكم وجنبوا البلد المآسي أو أرحلوا عنه

ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية: "عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، ولبلوغ التقوى جيدا علينا أن نعي مغزى ما قرأته في أحد الكتب من كلام لأحد كبار السياسيين الغربيين. قال وهو يتحدث عن العالم العربي والإسلامي: حين خرج العرب المسلمون من بلادهم مجاهدين متوحدين، اتجهت جماعة منهم شرقا إلى الإمبراطورية الفارسية، واحتلت ما يعرف اليوم بأفغانستان وسهول شمال الهند، واتجهت جماعة أخرى شمالا فوصلت إلى حدود الصين. واتجهت جماعة ثالثة إلى الغرب، فاستولت على سوريا وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا، ثم قطعت جبل طارق لتقف على بعد 250 ميلا من شواطئ إنكلترا. وهكذا في زمن قصير، نجد أن هؤلاء القوم استطاعوا أن يهزموا أقوى قوتين في عصرهم، هما الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، ليقيموا إمبراطورية تمتد من المحيط الأطلسي إلى حدود الصين. وفي هذه الفترة من التاريخ ،كانت أوروبا تتطلع إلى الإمبراطورية العربية، كما يتطلع العرب اليوم إلى أوروبا وحداثتها وتطورها".

اضاف: "كانت تلك الإمبراطورية هي مركز الصناعة والعلوم والآداب والتجارة، وكانت هي المسيطرة بنفسها على البحار المعروفة، حتى قال أحد الكتاب إنه لا يستطيع أي أوروبي في ذلك العهد أن يسير في البحر المتوسط، حتى لو أراد الإبحار على لوح من خشب، إلا بإذن العرب، وإذا أرادت أوروبا أن تحصل على أي نوع من المصنوعات، فإن عليها إن تشتريه من البلاد العربية".

اضاف فضل الله: "هل درسنا جيدا كل الأسباب التي جعلتنا نفقد ليس كل هذا التاريخ المجيد فحسب، بل نتراجع بعيدا إلى الوراء. رغم كل ما نملك من مقدرات.بالطبع، ليس الإسلام هو السبب في كل ما وصلنا إليه، فهو من بعث في الأمة الفاعلية والحيوية والحضور في كل الميادين. المشكلة هي فينا عندما تركنا ديننا وقيمنا، وسرنا وراء عصبياتنا وحساسياتنا وأنانياتنا، ودخلنا في آتون الصراع والفتن، فتشتت جهودنا وأصبحنا لقمنا سائغة بيد الآخرين ننتظر فتات موائدهم. أليس ما يجري في واقعنا يؤكد هذه الصورة، حيث لا تزال المنطقة العربية والإسلامية على حالها تعاني من سياسة استكبارية قديمة جديدة، لا تريد لها الاستقرار، وتبقيها في دائرة الفتن المتنقلة والصراعات المتعددة الأوجه. والهدف هو استنزاف مواردها وكل مواقع القوة فيها، لكي تحافظ هي على مصالحها في الإطباق على ثروات المنطقة، بينما يشعر الكيان الصهيوني بالأمن ويحقق مشاريعه الاستيطانية ويستمر في تهويد فلسطين والقدس وتنفيذ مشروعه المستمر في هدم مسجد الأقصى، لبناء هيكله المزعوم على أنقاضه، بعد أن أعدت الخرائط اللازمة له. ومع الأسف، يستفيد هؤلاء كثيرا من التخلف الموجود في هذه المنطقة، ومن طريقة تعاملنا مع بعضنا البعض، حيث اللغة المتداولة هي رفض الآخر المختلف وتدميره وإلغاؤه بدلا من استخدام لغة الحوار ومد جسور التواصل معه.وهذا لا يقف عند حدود التكفيريين الإلغائيين والإقصائيين الذين نعاني منهم الآن، بل حتى في المواقع الدينية والسياسية الأخرى، فما إن يحصل الاختلاف حتى ترفع المتاريس وتصبح اللغة هي قتل الآخر ماديا معنويا وتدميره، وهذا الأسلوب التدميري هو ما زلنا نعاني منه في سوريا، حيث يستمر نزيف الدم فيها، إلى جانب الدمار الهائل لمدنه وقراه وأحيائه ومصانعه وقواه العسكرية.أما القوى الاستكبارية، ففي الوقت الذي نرى أنها لا تستعجل الحلول في قمة الثماني الكبار، نلاحظ أنها تعمل على صب الزيت على النار المشتعلة، من خلال الحديث المتكرر عن الرغبة في تزويد المتقاتلين بأسلحة متطورة، وهي تساهم بالطبع في زيادة تأجيج الصراع، فيما تنعدم لغة الحوار والتنازلات لحساب الوطن وتستبدل بلغة الحسم العسكري والحسم المضاد الذي لن يحصل في ظل التجاذب الدولي والإقليمي الراهن".

وتابع فضل الله:"من هنا، تبقى دعوتنا المستمرة إلى الحوار، فهو الوسيلة الفضلى لإخراج سوريا من أزمتها، وهو الرد على السياسات الاستكبارية القائمة على استنزاف المنطقة. هذا الاستنزاف نراه أيضا في العراق، الذي لا يزال شعبه كل شعبه، يعيش معاناة التفجيرات الوحشية المتنقلة التي تحصد في كل شهر آلاف الضحايا والجرحى، والهدف واضح وهو تأجيج فتنة مذهبية وطائفية لا تسمح للعراق بالاستقرار والتطور، وتبقيه في دائرة الاستنزاف لقدراته. هذا الأمر بات يستدعي استنفارا لجهود كل القوى السياسية والمواقع الدينية للحوار فيما بينها والخروج بصيغة تحاصر كل الذين يريدون العبث بأمن هذا البلد وتطوره ونموه.وهذا الاستنزاف يطغى على العلاقات المتوترة بين الدول العربية والإسلامية، حيث لا يزال يكيد بعضها لبعض، ويقاتل بعضها البعض الآخر وإن بشكل غير مباشر، ويسعى بعضها لإسقاط بعضها الآخر، ما يؤدي إلى حد القطيعة التامة بينها، كما حصل أخيرا في قطع مصر لعلاقتها مع سوريا، في الوقت الذي كنا نأمل من مصر وندعوها إلى لعب دور في حل الأزمة في سوريا وإطفاء النيران فيها بدلا من تأجيجها، والاستنزاف لا يقف عند حدود هذه البلدان بل نراه كذلك في السودان وليبيا وتونس وتركيا".

واكد "إن المنطقة العربية والإسلامية هي أحوج ما تكون إلى العقلاء والواعين والحكماء والعلماء الربانيين، وتحتاج أيضا إلى الإنسان الواعي الذي يدقق فيما يقرأه وفيما يسمع وفيما يرى، في مرحلة تصنع فيها الأخبار والأحداث وتدبلج الصورة والأفلام التي يتناقلها الناس بعفوية وبدون تدقيق، وتقدم فيها الوقائع لخدمة مصالح متعددة. ومن هنا، نقول للجميع: شككوا في كل خبر تسمعونه، وفي كل فيديو يصل إليكم، وفي كل تصريح، وفي كل تحليل تقرأونه، فلا تتسرعوا بأخذه والبناء عليه ونقله، واستمعوا جيدا إلى كلام الله وهو يقول{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} وكل دعاة الفتنة هم فاسقون".

وقال: "والأمر نفسه نخشى أن يتكرر في لبنان، حيث الفتنة بدأت تطل برأسها من خلال الحوادث الأمنية المتنقلة بين مناطقه، وليس آخرها ما حصل في البقاع وما حصل في صيدا، وما قد يمتد إلى كل مكان في أي لحظة، فالتشنج على أشده، والخطاب السياسي، وحتى الديني، في أعلى توتره، ما بات يستدعي وعيا متزايدا من اللبنانيين، فلا يسمحوا للاعبين في الفتنة بأن يجدوا أرضا خصبة لهم وبيئة حاضنة لمشاريعهم، بل أن يشعروا بأنهم معزولون، لا تحميهم طوائفهم ولا مذاهبهم ولا مواقعهم السياسية والدينية والعائلية والعشائرية. وبأن الكلام الفتنوي والممارسات الموتورة، مهما علا سقفها، سوف تبقى محاصرة، وأيضا لا بد من أن يعمل الجميع لكشف خيوط الجرائم التي تحصل في هذه المنطقة أو تلك وآخرها في البقاع والتي مع الأسف باتت تأخذ طابعا مذهبيا وطائفيا، واعتبار أن أي جريمة تمس أبناء هذا المذهب أو هذه الطائفة، تمس المذهب الآخر والطائفة الأخرى أيضا. فلا تترك الساحة للمتشنجين والمتعصبين الذين يحسنون الاصطياد في الماء العكر. كما ندعو كل الفاعليات والقوى السياسية وغير السياسية، لتأمين الغطاء اللازم للجيش، لكي يقوم بدوره في الحفاظ على أمن الجميع، فلا يضطر الجيش وحفظا لدوره إلى التغاضي عن مسلحين هنا وهناك، على أساس السياسة اللبنانية القائمة على 6 و6 مكرر".

اضاف: "نحن في الوقت الذي نقدر كل الجهود التي بذلت وتبذل لمنع حصول فتنة في البقاع وصيدا وغيرهما من العشائر والفاعليات الدينية والسياسية والحزبية. فإننا على ثقة بأن وعي اللبنانيين الذين جربوا الفتن طويلا وهو يحصدون نتائجها في كل مواقعهم السياسية والاقتصادية والأمنية والعمرانية، لن يشرعوا للدخول فيها، ولن يسمحوا لغرائزهم الطائفية والمذهبية بالانفلات، وسيفوتون على دعاة الفتنة الاصطياد بالماء العكر والعبث بأمن الناس".

وختم فضل الله: "نحن مدعوون في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، إلى أن تسير عجلة مؤسسات الدولة، وأن تنطلق بسرعة، لا أن تبقى كما هي في دائرة المراوحة نتيجة تجاذبات المواقع العليا والمواقع السياسية وصراعاتها، كي لا يقع لبنان فريسة الفراغ الأمني والسياسي والسقوط الاقتصادي المنتظر.أيها المسؤولون: إن مواقع المسؤولية التي تحتلونها ليست ملكا لكم. هي أمانة أنتم وصلتم إليها لخدمة الناس لا لخدمة مواقعكم الشخصية وطموحاتكم الذاتية. فقوموا بواجباتكم وإلا وفروا على هذا البلد مزيدا من المآسي أو أرحلوا عنه".
  

السابق
سليمان تسلم تقرير المجلس الدستوري حول الطعن بالتمديد للمجلس النيابي
التالي
زاسبكين: بيان جنيف اساسي ولا خيار آخر في سوريا غير التسوية السياسية