جيش، سرايا، مقاومة

الصورة واضحة. دولة، مسلحون، مقاومة، ميليشيا. كل شيء يجوز. هذا البلد يحتمل كل التناقضات. لا شيء غريباً فيه. حتى هذه الصورة التي قيل إنها التقطت في صيدا. قبلها صور عديدة، الكادر نفسه والمشهد نفسه، مع تغيير وحيد: الوجوه. الباقي كلّه تفاصيل. أمّا الشعارات، فيعلم اللبنانيون أنها غير موجودة سوى في أحلامهم، أو في ما يتمنونه لما تبقى من حياتهم.
 
صورة صيدا، هي نفسها في أرجاء الجمهورية. هي، مع ما فيها من اللادولة، منتشرة أينما كان من طرابلس إلى الهرمل وعرسال وعكار وسعدنايل وبيروت، وغيرها من مناطق لبنانية. مناطق لو كان فيها حزبي واحد ستكون الحال على ما كانت عليه في صيدا، مع اختلاف الشكل، وحجم الإنفلات، حتى الوقاحة في التعاطي مع القوى الأمنية ومع الجيش، الذي ليس بيده حيلة، إلى الآن، وكما تقول الصورة، ونقول نحن، ويقول ضباط المؤسسة المنتشرين في شوارع مفتوحة على الجحيم.
 
المعادلة التي ترسيها الصورة، مشابهة لتلك التي كانت في البيان الوزاري للحكومة الماضية: جيش وشعب ومقاومة. معادلة، تتحوّل فيها المقاومة إلى سرايا دفاع عن شقّة أو عن حزب، والشعب إلى حاضن لميليشيا أو إلى ميليشيا أو مشجع لسرايا، فيما فئة قليلة عاجزة خائفة لا تنتمي إلى هذا المشهد المجنون. أمّا الجيش فله أن يشاهد رفاق المعادلة السحرية، يتحاربون، يتقاتلون، يحتلوا شوارع ويهددوا أخرى. رفاق المعادلة يمارسون حريّتهم الإجرامية، فيما هو ليس مخولاً ممارسة الحد الأدنى من واجباته.
 
هذه هي المعادلة، التي من أجلها، تطير حكومات، وتُمنع أخرى من أن تتشكل. هي المعادلة التي تحمل في خفاياها ما يلغي كل الدولة، ووجودها، في بيئة منهكة من الجميع، ويمارس بحقها كل انواع الإرهاب. صيدا واحدة من هذه البيئات. في تلك المدينة، هناك أسير لعقليته المتخلّفة، وهناك سجين القرارات الإقليمية الكبرى، ومعارك "الثارات" والبدع التي ليس لها سوى التحريض والتجييش ونكء جراح عمرها مئات السنين.
 
الصورة ليست مفاجئة أكثر ما هي مؤلمة. لا مجال للاستغراب أو الاستنكار. كل هذا من الماضي. اللبنانيون اليوم أمام واقع وحيد: البلاد لمن يحمل السلاح. هؤلاء، لهم السلطة وحرية التنقل وحرية القتل، بعفوية أو عن طريق الخطأ أو من القتل للقتل. كلّهم في خانة واحدة مهما أتت التبريرات والتفسيرات التي "لا تُخطئ"، في نظر مطلقها أو من يمشي على هديه.
 
كل لبنان يغرق في المجهول، لم يعد هناك حاجة إلى المنابر لكي ترصّ الصفوف. النفوس ممتلئة حقداً. هناك، خلف هذه الصورة، بقية مسالمة، قررت لعب دور المتفرّج، على وطن يركب الحرب، ولا يسأل. يركبها بفرح وبعناوين لا تُبشّر إلّا بما هو أسوأ من جولة 1975. جولة 15 سنة تبدو نزهة أمام ما هو آت.
 
في 9 أيار من العام 2008. الساعة السادسة والنصف صباحاً، تمرّ دورية للجيش اللبناني من محلّة الرملة البيضاء، قرب مبنى جريدة "المستقبل"، تتوقف، ليعبر من أمامها مسلحون، كانوا في طريقهم للنيل من "العدو" المتربص بهم في مبنى المؤسسة الصحافية. الصورة نفسها لم تتغيّر منذ ذلك الوقت، أي الجيش ومن يحمل السلاح. الجديد فيها اليوم، أن السلاح أصبح في أيدي الجميع، والدولة ومؤسساتها، يبدو ممنوع عليها أن تكون، ولن تكون.


السابق
اطلاق نار من سورية على الجولان المحتل
التالي
تفجير ذخائر غير صالحة في مركبا ومروحين