انتهاكٌ يتساوى فيه النظام ومعارضوه

لم تُرضِ رسالة رئيس الجمهورية عن الانتهاكات السورية السيادة أحدا. أعطيت تفسيرات شتى، فيما رمت الى تأكيد لبنان حقه في سيادته. ليست شكوى، ولا تحتاج الى مجلس الوزراء، ولا تعتدي على صلاحيات. بل هي اقل بكثير من شكاوى دمشق

اتاح الجدل المستجدّ حول الرسالة التي وجهها رئيس الجمهورية ميشال سليمان، الثلثاء، الى الامين العام للامم المتحدة بان كي مون عن الخروق العسكرية التي يتعرض لها لبنان من طرفي النزاع المسلح في سوريا، اسباباً اضافية لتعزيز الانقسام مما يجري في سوريا. وبدا سليمان هذه المرة هدفا متقدما لقوى 8 و 14 آذار. احداهما اغضبها موقفه، والاخرى تتذرع به لاستغلاله في تعزيز حجتها. على ان الاجراء الذي اتخذه الرئيس لم يمت اساسا بصلة الى اي من وجهتي نظر الطرفين، ويرتبط بدوافع اخرى:
1 ــــ خلافا لتفسيري قوى 8 و 14 آذار اللتين نظرتا الى الرسالة الرئاسية على انها شكوى ضد سوريا، لم يعدُ الاجراء كونه رسالة اقتصرت على احاطة الامم المتحدة علما بالخروق السورية للسيادة اللبنانية، يتناوب عليها الجيش السوري و«قوات مسلحة غير نظامية» (قصد بها مسلحي المعارضة السورية).
لم تكن الرسالة شكوى كي تنطبق عليها المواصفات التي يقتضي ان يقترن ارسالها الى الامم المتحدة، عملا بالاصول المتبعة في علاقة الدول بها، باحدى حالتين كلتاهما لم يثرهما رئيس الجمهورية: الاولى الطلب من الامين العام اتخاذ الاجراءات والتدابير المناسبة لوقف الاعمال والانتهاكات المشكو منها، والثانية طلب انعقاد مجلس الامن لاتخاذ موقف. لم تنطو رسالة الرئيس على اي منهما. بل الاصح ان سوريا سارعت الى احدى هاتين الحالتين قبل سنة عندما وجهت عبر مندوبها الدائم في نيويورك بشار الجعفري ثلاث رسائل طلبت فيها من مجلس الامن، من دون دعوته الى الانعقاد، التدخل لوقف تهريب السلاح وتسلل المسلحين من الحدود اللبنانية ـ السورية . ما تضمنته رسالة سليمان هو اخطار الامين العام للامم المتحدة بما يجري، وطلب تعميم مضمونها على اعضاء مجلس الامن ليس الا.
2 ــــ لا يمكن فصل تحرّك رئيس الجمهورية من الخروق الاخيرة في البقاعين الاوسط والشرقي عن تحرك مماثل قام به اثر اكتشاف حمولة الباخرة لطف الله ـ 2 في ايار 2012 محملة اسلحة مهربة الى المعارضة السورية عبر مرفأ طرابلس. حينذاك نقل شكواه مباشرة الى السعودية عندما زارها وأطلع الملك عبدالله على الحادث طالبا تدخله لوقف تهريب السلاح الى سوريا وتفادي تداعياته على الوضع اللبناني. تفهم العاهل السعودي وجهة نظره بالحؤول دون استخدام لبنان معبرا لامرار السلاح الى معارضي نظام الرئيس بشار الاسد. وتردد حينذاك ان تفهم الرياض حملها على ابلاغ الرئيس سعد الحريري ذلك بغية مساهمته ــــ هو الآخر ــــ في هذا المنحى.
لم تنقضِ اسابيع حتى صدر عن طاولة الحوار الوطني «اعلان بعبدا» في 11 حزيران الذي لم يكتف بالدعوة الى حياد لبنان عن حرب سوريا، بل دعا الافرقاء الى عدم ارسال مسلحين واسلحة اليها عبر الحدود. اكمل رئيس الجمهورية تحركه في القمة العربية الاخيرة في الدوحة، في آذار الماضي، عندما طالب بوقف الاعتداءات على اراضيه من طرفي النزاع وتأكيد التزام «اعلان بعبدا». وكان الاعلان قد حظي بدوره في وقت سابق بتأييد الجامعة العربية والامم المتحدة. في كل من المحطات تلك لم يميز رئيس الجمهورية بين طرفي النزاع في تبرير انتهاك السيادة اللبنانية، وقد تساويا في الحاق الضرر بهذا البلد وانتهاك سيادته.
3 ــــ لم يهضم سليمان ارسال حزب الله مقاتليه الى سوريا للقتال في الداخل، ما لبث ان تركت حرب القصير تداعيات خطيرة في الشمال والبقاع. تزامن هذا التطور الذي جهر به الحزب علنا وتسبب بردود فعل سلبية في الداخل والخارج مع قصف مروحية سورية بصاروخين عرسال حمل قيادة الجيش على الاثر على التهديد بالرد على مصادر الاعتداءات التي تستهدف الاراضي اللبنانية. كانت نبرة الجيش يومذاك غير مألوفة في التخاطب مع سوريا. عُدّ قرار الجيش ردا ملائما على استمرار الاعتداءات، لكنه كان في الواقع طبعة عسكرية عن الموقف السياسي الذي اعلنه رئيس الجمهورية في ما بعد وهو ابلاغ الامم المتحدة بالخروق السورية. كلاهما يصب في الوجهة نفسها، ولم يكن سليمان بعيداً عن قرار الجيش ذاك. كلاهما عبّرا ايضا عن رسالة واضحة هي رفض لبنان الرسمي استهداف اراضيه.
4 ــــ لم يشأ رئيس الجمهورية عندما قرّر توجيه الرسالة الى الامم المتحدة تعريض الديبلوماسية اللبنانية لأزمة او انقسام في الموقف، على غرار ما شهدته مرحلة الحكومة الاولى للرئيس فؤاد السنيورة بين عامي 2005 و2007 عكست انقساماً في السياسة الخارجية للبنان بينه والرئيس اميل لحود، وراح كل منهما يخاطب المنظمة الدولية على طريقته وبذرائعه.
لم يشأ الرئيس ايضاً، للسبب نفسه، الطلب من المندوب الدائم للبنان في نيويورك السفير نواف سلام تقديم شكوى او نقل الرسالة الى الامين العام. بعدما امتنع وزير الخارجية عدنان منصور اختار ان يسلم الرسالة بنفسه الى ممثل الامين العام في بيروت وضمنها انتهاك الجيش السوري السيادة اللبنانية بقصف الطوافة عرسال، وقصف « قوات مسلحة غير نظامية » (المعارضة ) الهرمل وسرعين والنبي شيت. كان سليمان طلب من منصور في وقت سابق توجيه مذكرة الى الحكومة السورية تطلب تفادي استمرار الاعتداءات، ارسلها الوزير بعد ثلاثة ايام. الا ان السلطات اللبنانية تلقت بدورها عشرات المرات رسائل مماثلة من وزير الخارجية السوري وليد المعلم الى نظيره يطلب ضبط الحدود ومنع التسلل وتهريب السلاح.
5 ــــ لم يكن قرار توجيه الرسالة، او الإخطار الرئاسي، في معزل عن تشاور اجراه سليمان مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي لم يتحفظ ولم يبد اعتراضا على الخطوة. ناهيك بأنها لا تتطلب انعقاد مجلس الوزراء ولا تمسّ الصلاحيات الدستورية للسلطة الاجرائية في تحديد خطوات السياسة الخارجية للبلاد. يصح الامر فحسب في قرار توجيه شكوى الى الامم المتحدة يقتضي عندئذ التئام مجلس الوزراء او الاكتفاء بتفاهم رئيسي الجمهورية والحكومة ووزير الخارجية حيالها.
في كل المراسلات والرسائل التي وجهها الامين العام للامم المتحدة، خاطب رئيس الدولة وحده في شتى مواضيع تناولاها . بعد ذلك يحيلها الرئيس على الوزير لاخذ العلم ومتابعتها.
6 ــــ يتأثر موقف رئيس الجمهورية بالتأكيد بعلاقة متقلبة ــــ والبعض يصفها غير ودية ــــ في الوقت الحاضر مع حزب الله بعدما خرج الحزب على «اعلان بعبدا » وانخرط في الحرب السورية ما تسبب في تباعد لافت في المواقف وافتقار الطرفين الى آلية تواصل دائم، وكذلك بالانقطاع الكامل للاتصال والتواصل بينه والرئيس بشار الاسد منذ آب 2012 اثر اعتقال النائب والوزير السابق ميشال سماحة، وقول سليمان من قصر بيت الدين انه يأمل في تلقي مخابرة من الاسد يشرح له محاولة التفجير التي كان سماحة يعدّ لها. ضاعف ذلك من اختلاف وجهات النظر وانقطاع التقويم المشترك للاحداث بين الرئيسين كانا قد درجا عليه منذ عام 2008.
عجّلت في اصرار رئيس الجمهورية على توجيه الرسالة، معلومات امنية تقاطعت لديه من اكثر من مصدر تحدثت، على اثر سقوط القصير مطلع هذا الشهر، عن احتمال حصول عملية عسكرية كبيرة في عرسال مكمّلة بنتائجها لمعركة القصير. وهو اراد ــــ بالرسالة الى المنظمة الدولية ــــ تدارك هذا التهديد.

السابق
لا أرى نهاية سريعة للنظام السوري
التالي
أميركا تعاقب تركيا وقطر