البوينغ 727 سقطت فماذا عن الصندوق الأسود؟

الانطباع الأول لم يجعلنا معنيين مباشرة. وثائقي عبر "الجزيرة" يسأل: مَن أسقط الطائرة الليبية من طراز "بوينغ 727" فوق مطار طرابلس الغرب العام 1992؟ آلية العرض المشوّقة فرضت انطباعاً آخر.

على أمل أن يأتي دور مَن يعمل على كشف مصير الصندوق الأسود الخاص بالطائرة الاثيوبية المنكوبة… أمنية ترافقنا، بينما نشاهد الوثائقي على مدى نحو الساعة. بات علينا ان ننتظر حلول كل خميس من آخر الشهر، فالمحطة وعدت بكشف ألغاز حوادث لفّها الغموض وكادت تُنسى. ضمن سلسلة "الصندوق الأسود"، كان الوثائقي الأول بعنوان "كارثة 1103".
وُضع العمل أمام التحدي، عليه ألا يكتفي بالحدود الليبية، وألا يتوجّه لليبيين فقط. تطلّب إعداده تنقلاً ما بين ليبيا وقطر وبريطانيا، ومَشاهد "مظلمة"، لأن شهوداً تكلّموا أمام الكاميرا للمرة الأولى. الأساليب التقنية الخاصة بالاستقصاء، التسلسل المنطقي للأمور ضمن اطار السرد، ومؤثرات الموسيقى والغرافيكس والـ Graphs، كلها ساعدت على تقديم عمل يحترم الحدث ويحترمنا.
صباح 22 كانون الأول من العام 1992 مشمسا كان، لا ينذر بالكوارث. باسلوب روائي تُسترجع الذكريات. ثم اهتزّت الطائرة في شكل عنيف ومفاجئ. 13 ثانية كانت كافية لاختلاط أشلاء 159 راكباً بالحطام، واختفاء ملامح الضحايا.
صوتٌ يقرأ المأساة برعب مُتعمّد. انها الثامنة والدقيقة السابعة. انقطع الاتصال، فهوت "البوينغ" بسرعة رهيبة، وفي شكل شبه عمودي الى الأرض. يرتاح الصوت للحظة، ليحمل سكيناً ويبدأ الحفر في الذاكرة. الدمع يثقب الذاكرة. "دُفنت أشلاء الضحايا في قبر جماعي بعد استحالة التعرّف على الجثث".
الوثائقي مساران: السرد والتمحيص. ظروف الكارثة أولاً، فماذا حدث؟ أسماء كثيرة ظهرت على الشاشة، أثبت وجودها وأهمية دورها آنذاك، ان ما قُدم بمثابة عمل مرجعي قائم على جهد مكثّف تطلّب وقتاً طويلاً. ثم أطلّ العقيد الراحل معمّر القذافي، بأعصاب باردة، يعزو الكارثة الى النقص في المعدات وقطع غيار الطائرات نتيجة الحصار الذي فرضه مجلس الأمن على ليبيا بعد حادثة تحطّم طائرة "لوكربي".
عرض العمل لفرضيات السقوط: تفخيخ، صاروخ، تلغيم؟ تختلف الروايات وتتعقد فصول التحقيق. لافت المنهج العلمي الذي جرى اتباعه. التقطَنا لحظة بلحظة. منطق ترتيب الأشياء. وكان سؤال آخر: اذا كان "ملك ملوك افريقيا" سبب الكارثة، فما الطريقة التي اتبعها؟ الأسئلة بمثابة تمهيد لما ينتظرنا. "تحايل" يضمن حبس الأنفاس.
فرض القذافي حظر تجوّل جويا فوق مزرعته المحاذية للمطار، ما أجبر طائرة تدريب عسكرية على الانحراف والاصطدام بطائرة "البوينغ". هدف الوثائقي استقصائي، وهدفه أيضاً الا يكون مملاً، لذلك لم يأت على ذكر الطائرة العسكرية في بداية السياق. سرعان ما تُرجَّح فرضية تورّط القذافي على سواها من الفرضيات، فتُجمَّع الحجج لإثباتها: مقتل الوزير ابرهيم البكار، الذي وعد الليبيين بمحاكمة علنية بحادث سير غامض بعد 16 يوماً من تحطّم الطائرة. تزامن تحطّم طائرة "لوكربي"، في 21 كانون الأول 1988، وهي التي تحمل الرقم 103، وتحطّم "الرحلة 1103" في 22 كانون الأول، واصطدام الطائرة العسكرية بها جراء التعليمات المتبعة منعاً لازعاج العقيد في مزرعته. النتيجة: هوت الطائرة المدنية حين اصطدمت بالعسكرية. انها النتيجة عينها التي خرجت بها لجنة التحقيق الليبية العام 1993، من دون ان يُنشر التقرير ويطلع عليه أحد.
أهمية الوثائقي في سعيه وراء المعلومة ثم في حُسن تقديمها. نرى ارادة واصراراً على تقديم عمل جدّي. لعله دليل آخر الى ان الأعمال لا تكتمل إلا حين ترفض الأشياء المستحيلة.   

السابق
حبيش : من الصعب ان نتفاهم مع فريق يزج البلاد في حرب أهلية
التالي
أحمد زكي سكن قلوب الجماهير