أمطار التاريخ

ها هو التاريخ يهاجمنا. نهض من قبره وأطلق محاربيه. انقضوا على المدن وامسكوا برؤوس الجبال. أنهار طويلة من الحراب والفؤوس والعيون المسنونة. أنهار من الخناجر والأحقاد. تاريخنا وحش كاسر. لم نقرأه جيدًا لنؤكد موته. لم نتعلم منه لننجح في اعتقاله. توهمنا أننا غادرناه لكنه بقي مرابطاً في أوردة الرأس وتحت الأظافر.

سيل من خيول الظلام يطبق على ما كنا نسميها أوطاننا. وها نحن نكتشف أننا عراة أمام صيحات الثأر الوافدة من الكهوف. هذه ليست أوطاناً إنها مكائد لعاثري الحظ. إنها مقابر جائعة تلتهم الأجداد ثم تلتهم الأحفاد.

إننا عراة. هذه ليست دولاً. إنها ستائر واهية مطرزة بالأكاذيب. قصور كرتونية تنتظر مواعيد اشتعالها. هذه ليست مؤسسات. فاشلة في السلم وفاشلة في الحرب. لا تقنع ولا تجمع ولا تقي ولا ترشد. هذه ليست جيوشاً. إنها جماعات مسلحة تنتظر انفراط عقدها لتنطلق في مواسم الفتك. هذه ليست أحزاباً. إنها طوائف أو جهات كمنت تحت لافتة مستعارة. هذه الحكومة لبعض الشعب وبعض الأرض. والجيش يشبهها. ومهمتها الأولى رصد البعض الآخر لتأديبه أو شطبه.

ها هو التاريخ يتدفق. أمطار من الوحل والدم. ونحن لا جدار ولا مظلة. لقد كذبنا طويلاً على شعوبنا والآخرين. كذبنا حين تحدثنا عن دولة المؤسسات. وحكم القانون. والمساواة أمام القضاء. وشرعية صناديق الاقتراع. واحترام إرادة الناخبين. وكرامة المواطنين. وكذبنا حين تحدثنا عن احترام الحدود الدولية. ومعاهدات الأخوة. وحسن الجوار. والموثيق الدولية. وقرارات الأمم المتحدة. وبكائيات الجامعة العربية.

ها هي بلداننا التي كانت بلداننا. جيوش حاقدة. ميليشيات موتورة. حكومات معطلة. برلمانات فاشلة. موازنات منهوبة. وها نحن نحتفل على الخرائط الممزقة بسقوط الحدود. وسقوط التعايش. ونسلم أبناءنا للمجازفين.

وها نحن عراة. أين قيم التعايش والتسامح؟ أين كلامنا المتكرر عن التنوع وثروته وقبول الآخر واحترام حقه في الاختلاف؟ أين الجامعات ومن مروا فيها؟ أين الكتاب والشعراء؟ أين الأصوات التي تفتح النوافذ وتؤسس لأحلام جامعة؟.

كنا نخشى أن تنفجر المنطقة تحت وطأة الظلم والفقر والتهميش. ها هي تنفجر تحت وطأة برامج تفوق قدرتها على الاحتمال. اللافت هو أن ملاعب القتل محصورة في الحي العربي من القرية الأقليمية. هذه بدايات الحريق. هذا أول الفتنة.

ماذا سيبقى من سورية إذا استمرت هذه المقتلة على أرضها؟ ومن سيدفع الثمن إذا أصاب الوهن من يفرط اليوم في استخدام قوته؟ وماذا سيبقى من لبنان إذا واصل «حزب الله» مجازفته الدامية على أرض سورية؟ وهل كان العراق يندفع نحو الهاوية لو كان المكون السني يتمتع بحضور طبيعي في المؤسسات والقرار ولو كان مسعود بارزاني مقيماً في بغداد وشريكاً كاملاً فيها؟.

نرفض دفع أثمان التفاهم والتسويات واللقاء في منتصف الطريق. نفضل المغامرة والمقامرة والانزلاق إلى الهاوية. ها هو التاريخ يهاجمنا ويعيدنا إلى كهوفه.

السابق
لبنان في أسوأ أيامه
التالي
حزب الله والمشرق الجديد