حزب الله لاعبا في الساحة السورية: الخسائر والأرباح

… طويلة هي الفترة التي استغرقتها عملية اتخاذ دوائر القرار في "حزب الله" قرار المشاركة ولو على نطاق محدود في المعارك والمواجهات الدائرة بضراوة في الساحة السورية منذ عامين ونيف، لذا كان القرار النهائي في عُرف قيادة الحزب واعياً لابعاده وتداعياته وتكاليفه العالية ولم يكن اطلاقاً قراراً تندم عليه في يوم من الايام.
وهكذا اتخذ الحزب قرار الانخراط في حرب متعددة البعد، تختلف تماماً عن جملة الحروب والمواجهات التي خاضها مع الكيان الصهيوني وشكلت رافعته، وهو يعي حجم التكاليف والاثمان المادية والمعنوية التي سيدفعها عاجلا ام آجلا، ويعي استطراداً انه يلج بذلك عتبة مرحلة جديدة في سيرته ومسيرته التي بدأت منذ مطالع الثمانينات من القرن الماضي.
وبناء على هذا الاعتبار الاساسي، اتخذ قرار الانخراط في المواجهة بعد طول نقاش وسجال داخلي، وكانت عملية الانخراط على مراحل، استوجبت مقدمات نظرية لتشريع الامر، وبلغت ذروتها في الخطاب الاخير الذي القاه الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله والذي استعاد فيه مصطلحات ورؤى تماهت مع المصطلحات والتعبيرات التي استخدمت ابان مواجهات حرب تموز عام 2006 ولا سيما حينما استخدم التعبير المثير لحماسة القاعدة الجماهيرية وهو تعبير "اعدكم بالنصر دوماً".
انها إذاً مواجهة قرر الحزب خوض غمارها رافعاً مستوى تشريعها وتسويغها الى حد جعلها شكلا ومضموناً، برمزية مواجهة العدو الاسرائيلي، لا بل بقدسية بعض مصطلحاتها التي تدغدغ مشاعر الجمهور العريض للحزب، وثمة "عقبة" نظرية كبرى جهد الحزب لتجاوزها نفسياً ومعنوياً وتسويغاً سياسياً لحظة شاء الانخراط في معركة يدرك انها كونية وفي الساحة السورية، وهي عقبة انه ينتقل من حال الدفاع والكمون للمواجهة الى حال الهجوم، والاكثر اثارة للجدل هو ان الهجوم يتجاوز جغرافياً دائرة حدود البلاد الى حدود اوسع تسقط بالمبدأ حدود "سايكس – بيكو" وابعد من ذلك تضع الحزب قبالة "الاسلام السياسي" السني بوجهيه الرسمي و"الحزبي" وجهاً لوجه، لا سيما ان هذا الاسلام هو في حال توتر وتلهف لبسط سيطرته ومد بساط ظله على الشرق العربي عبر البوابة السورية بعدما نجح خلال الاعوام القليلة المنصرمة في تكريس حضوره على رأس هرم السلطة في دول عريقة مثل مصر وليبيا وتونس واليمن.
مدخل الحزب الى ميدان المواجهة في سوريا كان نظرياً في بداية الامر، وتجلى ذلك في كل الخطب السياسية التي القاها نصرالله منذ اندلاع الاحداث في سوريا عن ضرورة انقاذ الدولة في سوريا والحيلولة دون سقوطها وتشظيها من جهة وسقوطها بيد جبهة الاعداء من جهة اخرى، من خلال التجاوب مع الجهود والعروض التي يقدمها النظام لفتح ابواب الحوار فالحل قبل فوات الاوان.
ثم كان المدخل الآخر، الذي جسّد الدخول العملاني والميداني، وقد تجلى في ريف القصير حيث لسان القرى الشيعية التي هي امتداد للهرمل وقراها والذي صار مهدداً بالإجتياح من جانب المجموعات المسلحة. انه إذاً مدخل يكتسب في طياته "شرعية وطنية ودينية وانسانية"، فثمة تلبية لطلب نجدة من بضع آلاف من اللبنانيين صار وجودهم في عين العاصفة وتحت رحمة المجموعات المسلحة الزاحفة.
ومن البديهي ان خصوم الحزب وجدوا صعوبة نظرية في الرد على تبريراته للانزلاق التدريجي في اللعبة السورية، علماً ان ثمة طروحات ورؤى سرت في جبهة خصوم الحزب تدعو الى تركه يغرق أكثر فأكثر في اتون اللعبة القاتلة في سوريا، حيث برأيهم ان النظام السوري بلغ حد التداعي التدريجي، وحيث ردة الفعل السلبية على دخول الحزب ستكون عارمة في اوساط المسلمين والعرب عموماً الى الاكثرية السنية حيث الدخول غير المبرر الى ملعب ظن هذا الفريق انه ملعبه الحصري، وستكون ايضاً قاسية في داخل قاعدة الحزب العريضة خصوصاً عندما ستتوالى جنازات قتلى الحزب العائدة من الميدان بالعشرات لتدفن في القرى والبلدات.
كان الحزب متيقناً من ان قاعدته ستسير معه في كل خياراته وستخوض معه البحر ان اراد، في حين ان خصومه راهنوا على خلاف ذلك، اي راهنوا على نقمة عارمة ستأتي ساعتها على "مغامرات" غير محسوبة العواقب.
لكن الامور تغيرت وخطاب الحزب تحول لاحقاً اذ صار الخصم مثلث الاضلاع اسرائيل، والولايات المتحدة والتكفيريين الضلع المستجد الذي بات خطره قريباً، وبعدما قرر ان يستفز الحزب، ويعمل على اذلاله لحظة خطف الزوار اللبنانيين الـ11 في اثناء عودتهم الى بلادهم مشترطاً لاطلاقهم ان يبادر السيد نصرالله الى الاعتذار عن مواقفه فكان رده القاسي.
كانت هذه الذريعة الاولى، ثم توالت واحدة تلو أخرى، إذ كانت الهجمات المتكررة على مقامات لها قدسية عالية عند الشيعة في السيدة زينب والسيدة رقية في داريا وبعدها قبر الصحابي الجليل عدي.
وبالطبع كان الحزب قد تيقن بالبرهان العملي من رسوخ اعتقاده الاول ومفاده ان نظام الرئيس بشار الاسد قادر على الصمود ويملك قابلية المواجهة رغم انه بدا في مرحلة من المراحل منهكاً وفي حال تراجع أمام زحف المجموعات المتمردة، اضافة الى موجة عداء وقطيعة عالمية معه خصوصاً على المستوى العربي. وفي الحسابات الداخلية للحزب، ان الانتقال من حال الدفاع الكفائي الذي عاشه الحزب منذ أن وضعت حرب تموز عام 2006 اوزارها الى حال الهجوم صار مطلباً يعيد للحزب حيوياته ويخرجه من أسر القرار 1701، حيث كان الرهان على ان سلاحه سيصدأ في المخازن والترسانات وهو عاجز عن اخراجه ولا سيما بعدما اشتدت عليه وطأة الحملات الداخلية، خصوصاً بعدما صار حليفه في دمشق في حال انحدار ويوشك على السقوط.
والحسابات عينها ممتدة، "فالتدخل" في سوريا سيعيد الاعتبار الى دور الحزب وحجمه، ويصيّره بالبرهان العملي لاعباً اقليمياً، أي سيؤدي الى احباط كل الرهانات على محاصرته في الداخل اللبناني وجعله يندفع الى زواريب ومتاهات هذا الداخل.
ثمة رمزية كبرى اذا لقتال الحزب في القصير وريفها، وصولاً الى الريف الدمشقي حيث السلسلة الشرقية التي تطل على بعلبك وتجعلها تحت مرمى الصواريخ. وعليه فالمشاركة ضربة استباقية، تستأهل أن تدرج في خانة "النصر الموعود" والمشاركة في المعركة ترقى الى مقام مواجهة العدو.
ولكن ألم يقرأ الحزب تداعيات انخراطه في اللعبة السورية القاتلة على علاقته بالسنة جمهوراً واحزاباً في لبنان وفي المحيط؟ واستطراداً ألم يكن قد حسب حساب هجمات مراجع سنية مثل القرضاوي وسواه عليه وهم الذين نظّروا للثورة في سوريا ودعوا الى مؤازرتها وبلغوا حد مباركة قتل علامة مثل الشيخ البوطي في محرابه كونه رفض الفتنة وأفتى بحرمة الخروج على النظام العام؟
لهذا الامر بالذات قراءة معمقة لدى الحزب كونه شغله الشاغل منذ زمن بعيد، ولكون خطر الفتنة السنية – الشيعية يتفاعل منذ اعوام وتوشك ان تأخذ في طريقها ما تراكم من رصيد للحزب لدى الجمهور العربي ابان سني قتاله ضد العدو الاسرائيلي.
القراءة مؤداها ان خوف الحزب المزمن من بروز هذا الخطر قد انتهى مفعوله وبالتحديد منذ احداث العراق خلال الفترة الممتدة بين عامي 2006 و2008 وأحداث ايار في 2008 في بيروت، فبعدها "انفرزت" الأمور نهائياً وانطوى الخطر الواسع للفتنة وبانت الذيول والتداعيات. ثم كانت الأحداث في سوريا والتي أسفرت عن معادلة اساسية ما زالت وستظل قائمة: ليس كل السنة ضد النظام في سوريا، وقسم من الذين أغرتهم "الثورة" قد تراجع.
هذا على المستوى العربي الأوسع، اما على المستوى اللبناني فان الحزب يقيم على قراءة فحواها ان الذين بنوا حساباتهم ورهاناتهم على أساس أن سقوط النظام السوري المحتوم مسألة ايام، يعانون خيبة ومغامراتهم في طرابلس وصيدا وسواها ارتدت عليهم.
ماذا بعد؟
لا شك في ان "حزب الله" يعيش بعد معركة القصير شعوراً بصحة حساباته وبدقة خياراته، فعديد الشهداء الذين قدمهم في سوريا كانوا اقل بكثير مما كان يتوقعه، والمحور الذي هو جزء اساسي فيه صمد وبدأ يجني ثمار صموده من بوابة سوريا الى العراق امتداداً الى اليمن وساحة فلسطين نفسها التي هو على اقتناع من عودتها اليه عودة الابن الضال. وبعد القصير ثمة اماكن وجبهات اخرى تحتاج الى وجود الحزب، لذا فهو ماضٍ في خياراته، ولو بلغت هذه الخيارات حد المغامرات، فهو ولا ريب غير متضايق اطلاقاً من مخاوف تل ابيب وهي تفصح عن هواجسها وتخوفها من أن تكون المواجهات التي يخوض الحزب غمارها في القصير وريفها جزءاً من رصيده في الاستعدادات والخبرات المكتسبة ميدانياً استعداداً لمعارك مع آلة الحرب الاسرائيلية لاسيما ان اسرائيل تدرك ان مساحة القصير الجغرافية هي ضعفا مساحة مستوطنة كبرى في الجليل مثل كريات شمونه.  

السابق
السياحة جنوباً.. الخوف من الأسوأ
التالي
لبنان ومرحلة الخطر الشديد… أمنيا واقتصاديا