كُبرى العقبات أمام الحل السياسي

يواجه النظام السوري «الحل السياسي» واحتمالاته بخطط هجومية يحاول تعميمها على مختلف المناطق التي خسرها كلياً أو جزئياً. وهو لا يريد التفاوض مع المعارضة بل مع القوى الدولية التي تدعمها. والواقع أن القوى برهنت، خصوصاً منذ اشهار «الاتفاق» الاميركي – الروسي، أنها منحت هذا النظام فرصة جديدة لإثبات قدرته على اخضاع الشعب والبلد. وإلا فكيف يُفسّر تفرّجها على معركة القصير ودور «حزب الله» المعلن فيها، وإجهاضها الهجوم الصاعد من درعا، وازدياد التسليح الروسي والايراني للنظام. والأهمّ كيف يُفهم تأجيل تسليح المعارضة وتمييعه إلا بأن «أصدقاءها» لم يعودوا متمسّكين بالمعادلة التي ارتسمت على أساس «لا هزيمة ولا انتصار» للنظام أو للمعارضة. أكثر من ذلك، بات النظام يحارب بكل الأسلحة الممنوعة وكأنها تقليدية ومباحة، فلا أحد يلومه أو يحاسبه، والجميع يعرف أنه يستعد لإنهاء معركة القصير بالسلاح الكيماوي.

تأكد للأجهزة البريطانية، بعد فحص عيّنات تسلّمتها من مصادر موثوق بها، أن ثمة اصابات بغاز السارين الخانق. وأبلغ كل من يلزم، من خبراء للأمم المتحدة مُنعوا من التحقيق الى الأجهزة الاميركية، لكن من دون أي رد فعل مجدٍ. فالدول الغربية الواقعة في فخ التعنت الروسي أصبحت عاجزة تماماً، بل مستسلمة أمام استشراس موسكو في حماية وحشية حليفها. وتواصل هذه الدول إيهام نفسها والرأي العام بأن الاندفاع الى «جنيف 2» وسيلة ناجعة لـ «إحراج» الروس وحملهم على تغيير استراتيجيتهم، لكن مجرد رفع الحظر الاوروبي عن تسليح المعارضة (من دون أي تسليح بعد) سوّغ لموسكو تحريك صفقتي الـ «ميغ 29» وصواريخ «اس 300»، فضلاً عن لوم الآخرين بأنهم يقوّضون «الحل السلمي»، بل انها منعت مجلس الامن من اصدار بيان – غير ملزم – في شأن القصير والوضع الانساني فيها بحجة أن المجلس لم يبدِ أي موقف عندما سيطر الثوار على القصير.

فكما فرض النظام خططه الدموية في ادارة الأزمة، كذلك تفرض روسيا منطقها اللاأخلاقي في المواجهة الدولية متسلّحةً بسجل طويل من لا أخلاقية خصومها الغربيين، ولا سيما الاميركيين بانحيازهم الثابت للإجرام الاسرائيلي وبمغامراتهم المخزية في العراق وأفغانستان. بقي خصوم النظام ولا يزالون أسرى «الفيتو» الروسي – الصيني، وأسرى «شرعية ورقية» يستغلّها النظام للتسلّح باعتباره «الدولة» ولادّعاء تمثيل سورية التي انتهك روحها وتاريخها قتلاً وتدميراً. وإذ يُقدّمون «جنيف 2» على أنه لحظة الحقيقة و «الفرصة الأخيرة»، فإنهم ارتكبوا كل الأخطاء التي تجعل من هذا المؤتمر فرصة للنظام كي يحصل على تسوية لمصلحته، لأنه يملك كل الأوراق والمقوّمات التي تضمن – في عقيدتهم – تفوّقاً لـ «منطق القوة والإبادة» على «منطق التضحية والصمود» الذي اتّبعه الشعب السوري.

في مواجهة مواقف حلفاء النظام، الصلبة والصريحة والبالغة «الشفافية» في وقاحتها ودعم جرائمه، لا تزال أهداف «أصدقاء الشعب» – مع افتراض أن الاميركيين يمثّلونهم – غامضة وملتبسة وبحاجة الى توضيح. طوال سبعة وعشرين شهراً برهنت موسكو أن موقفها المعلن هو الذي تطبّقه وتصرّ عليه، بكل بشاعته وكلبيّته. أما واشنطن، فكلما أوضحت موقفها ازداد غموضاً، سواء بمبدئيته أو بواقعيته. والأرجح أن روسيا وحدها تعرف اللاءات المحددة لموقف اميركا وتستخدمها لترجيح استراتيجيتها: لا نيّة للتدخل بأي شكل، لا رغبة في رؤية تكرار للتجربة العراقية، لا ثقة بمخرجات «الربيع العربي» أكانت من صناديق الاقتراع أم من حرب تحرير، وبالتالي فلا اعتماد حقيقياً على المعارضة السورية ولا عزم على تسليحها، وأخيراً لا مجال للمساهمة في إعادة انتاج الارهاب بغضّ النظر عن تغلغل «القاعدة» في نسيج الثورة السورية… كل هذه اللاءات سمعها الروس تكراراً وفهموا أنها لا تعني شيئاً آخر غير التردد والعجز والإحجام عن التورط والبحث عن أي حل «سياسي» يؤمن بأمرين: أولهما المصلحة الأمنية لإسرائيل، والآخر وقف القتال بأي شكل، لأن استمراره وتوسعه يطيلان الأزمة ويبقيان ادارة اوباما تحت الضغط من أجل تدخّل لا ترغب فيه وتأخرت عليه وبذلت الكثير من هيبتها لاستبعاده. ولا تعارض روسيا هذين الهدفين، إلا أنها تربط وقف القتال بالضغط الاميركي على المعارضة لقبول شروط التسوية.

وفي ضوء ذلك، عندما يقول الاميركيون إن لا مكان لبشار الأسد في المرحلة الانتقالية، فماذا يعنون حقاً؟ وفقاً للغتهم السائدة: إما أن يتنحّى أو ينقل صلاحياته. وطالما أن الحل المنشود من «جنيف 2» يرتكز الى حكومة بصلاحيات كاملة، فإن ثمة حاجة واضحة الى الأسد لينقل صلاحياته الى هذه الحكومة. لكن الاميركيين يعرفون مسبقاً أنه لن يفعل، فكيف يواجهون ذلك؟ أبلغوا الروس أو تركوهم يفهمون أنهم يوافقون ضمناً على بقائه، وسيعملون لتأمين موافقة المعارضة على رغم صعوبة ذلك. أما لماذا يكررون أن لا وجود للأسد في الحل، فهذا مجرد موقف «مبدئي» (!) لزوم إيهام المعارضة بـ «أخلاقيتهم» أو تخديرها أو خداعها لاستدراجها الى «التفاوض» كخيار وحيد لدى اميركا بعدما تجاوز النظام «الخط الأحمر» ولا تستطيع شيئاً ضدّه.

وعندما يقول الروس إن صلاحيات الدفاع والأمن ستبقى في يد الأسد، فماذا يعنون حقاً؟ إما أنه هو مَن يقود الحل وإلا فلا حل ولا انتقال. وطالما أن معادلة الأرض تتغيّر، تحديداً منذ التلويح بـ «جنيف 2»، فهذا يؤشر الى أن الحسم الذي وعد به النظام مراراً قد بدأ يؤتي ثماره، لذلك لا يضمن الروس ولا يريدون اقناع النظام بوقف للنار. وعلى رغم أنهم والايرانيين وفّروا أسلحة جديدة متطوّرة وخبرات استخباراتية تمكّن النظام من تحقيق «انتصارات»، فسيّان عندهم اذا كانت هذه «الانتصارات» تعيد اليه الحكم والسيطرة أم لا، المهم أن تساعدهم في مناوراتهم ومساوماتهم، ولذلك يصرّون على بقائه. أما لماذا يكررون أن الحل يكون سياسياً أو لا يكون، فهذا مجرد شعار ترويجي لزوم استدراج تنازلات من اميركا ما دامت تخشى التدخل في أرض أمعنوا في «أفغنتها» و «عرقنتها» ولن يترددوا في «صوملتها»، رافعين مسبقاً كلفة التدخل الى حد أقنع واشنطن بأن التنازل أسلم وأرخص.

يُفترض أن نجاح «جنيف 2»، اذا عُقد، رهن شروط ثلاثة رئيسة: وقف اطلاق النار، حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة، وتفاوض على مستقبل الدولة. الأول لم يقبله النظام ولا مرّة واشترط تسليم المعارضة سلاحها أي استسلامها، والآخران يرتكزان الى أولوية تفكيك «الدولة الأمنية» وقد حسمهما الاسد مسبقاً في حديثه مع قناة «المنار»، اذ قال إن حكومته الحالية لديها كل الصلاحيات لإدارة شؤون البلد باستثناء ما يتعلّق بالجيش والأمن، فهو من صلاحية الرئيس وفقاً للدستور، ولا يمسّ إلا بتعديل دستوري. أي أن الاسد يقول لطباخي «الحل السياسي»، مسبقاً، ان الصلاحيات لعبته، وإذ يريدونها فإنهم يعترفون به وبنظامه و «شرعيته» وبالدستور الذي أعدّه خلال الأزمة وفصّله على مقاس «شبّيحته» ولم يأخذ برأي المعارضة ثم مرّره أو بالأحرى لفّقه بـ «استفتاء شعبي» كعشرات الاستفتاءات التي أُجريت طوال الحكم الأسدي – البعثي وأودت بسورية الى هذا المنزلق الكياني الخطير. أكثر من ذلك، كان خصوم النظام وصفوا مسرحية الدستور والاستفتاء بـ «المهزلة»، لكنهم مقبلون اليوم على العمل بموجباتها، ومع «بطلها». ليس فقط أن التفاوض في ظل «الدولة الأمنية» غير واقعي، بل إنه وصفة لـ «حل سياسي» لن يبصر النور أبداً.

السابق
المشهد سوداوي بامتياز
التالي
منصور: السيطرة على القصير انجاز وحزب الله دافع عن اللبنانيين