تورط حزب الله في سورية والرد الأميركي

لخّص مسؤول روسي كبير تقويم موسكو لما يجري في سورية وحولها بقوله «الأمور تسير على أحسن ما يرام». وشخّص مسؤول أميركي موقع الرئيس باراك أوباما إزاء التطورات السورية قائلاً بعد اجتماعه به مطوّلاً انه «يقع في حيرة». هذه الخلاصة للموقعين الأميركي والروسي مؤسفة بل يستحق التنديد كل من الاحتفاء الروسي بإنجازاته الكريهة في سورية والاختفاء الأميركي عن المشهد السوري بكل تحقير للاعتبارات الإنسانية. دخلت سورية اليوم نفقاً آخر من الظلام القاتم بمساهمة روسية وأميركية. وزير الخارجية الأميركي جون كيري يتعانق مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في رقصة التانغو الديبلوماسية على وقع جعير الموت الآتي من سورية.
اللاعبون الإقليميون تورطوا في سورية وباتوا رعاة الحروب التي تُدار من أجل الأدوار التي تسحق أجيال سورية وترميها في أحضان الدمار. «حزب الله» جاهر بخوضه الحرب السورية بالرجال والسلاح فيما عقدت القيادة الإيرانية بالموازاة مؤتمراً لأصدقاء سورية عنوانه الرئيسي ضمان دور إيران في رسم مصير سورية. دول مجلس التعاون الخليجي المعنية بالملف السوري «شخصنت» سياساتها كعادتها واعتمدت تكتيك الرد بدلاً من الالتزام بتنفيذ متكامل لاستراتيجية. كل هذا فيما تفاقم الرعب في الدول المجاورة، بالذات لبنان والأردن، من انفجار البنية التحتية فيهما نتيجة تدفق اللاجئين إليهما. كل هذا فيما مضى النظام في دمشق في إقناع نفسه بأنه مقبل على النصر منفذاً تعهداته بأن إما له الانتصار في سورية وإما أن يكون مصير البلاد الانهيار.
مرة أخرى، يترافق التسابق على التسليح مع السباق نحو طاولة الديبلوماسية والحلول السياسية الموعودة لسورية. ما ساهم في تفعيل السِكّتين – سكّة موازين القوى العسكرية على الأرض وسكّة المفاوضات السياسية في مؤتمر دولي – هو دخول «حزب الله» علناً طرفاً في النزاع المسلح لصالح النظام في دمشق وما أسفر عن ذلك من تعزيز موازين القوى العسكرية لصالح محور الممانعة الذي يضم إيران و «حزب الله» والنظام في دمشق إلى روسيا ومعها الصين.
مصادر مطلعة على معلومات صنع القرار الأميركي أفادت أن التغيير الأبرز في الموقف الأميركي تمثّل في تعبير «عرّفنا الآن هوية شبابنا» في سورية.
هذا يعني أن الإدارة الأميركية توقّفت – أقله حالياً – عن الترفّع التام عن إمداد المساعدات العسكرية المباشرة وغير المباشرة – باختلاف نوعياتها – إلى المعارضة السورية. يعني أيضاً أنه تم التمييز بين المعارضة المعتدلة وبين القوى المتطرفة في المعارضة السورية التي تخشى الولايات المتحدة أن تدعمها خطأٍ فتُلام على دعم أمثال «جبهة النصرة» أو «القاعدة» أو الإرهاب.
تحديد هوية «شبابنا» يعني أن الاستخبارات الأميركية وجدت في المعارضة السورية مَن تعتبرهم موضع ثقة وأن واشنطن جاهزة الآن للسماح بتسليحهم. يعني أن الرئيس الأميركي الواقع في «حيرة» تطلع جنوباً ويساراً ورأى أن امتناعه عن الانخراط يعني أنه يقوم بتقديم سورية هدية إلى إيران تماماً كما سبق وقدّم سلفه جورج دبليو بوش العراق إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية. يعني أن باراك أوباما أعاد النظر قليلاً في معنى السماح بانتصار إيران و «حزب الله» في سورية وأبعاد ذلك الانتصار إقليمياً، فاستدرك. يعني أيضاً أنه نُصح أن يفكر ليس فقط بإرضاء روسيا في سورية وإنما أن يفكّر ملياً بإفرازات نقمة السنّة في أعقاب تسليم سورية – بعد العراق – إلى القيادة الشيعية المتمثلة الآن بإيران وما يترتب على ذلك من انتقام المتطرفين الجهاديين من السنّة بأعمال إرهابية داخل البيت الأميركي وضد مصالحه الدولية.
المرشح السابق للرئاسة السناتور الجمهوري جون مكاين تحدث صراحة في المنتدى الاقتصادي العالمي في البحر الميت الأسبوع الماضي عن ضرورة تعزيز الدور العسكري للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) في سورية. تحدث عن كل خيار باستثناء تواجد عسكري مباشر للجنود الأميركيين في الحرب السورية وشمل ذلك فرض حظر الطيران. الأهم، أن جون مكاين توجّه إلى الداخل السوري واجتمع، بعلم البيت الأبيض، بقيادات عسكرية الأرجح أن بعضها من «شبابنا» الذين عرّفتهم الإدارة الأميركية.
هذا التحوّل في الموقف الأميركي قد يكون تكتيكياً وقد يكون استراتيجياً. الواضح أنه لم يأتِ من فراغ. ولعل وضوح الدور الإيراني العسكري المباشر وعبر «حزب الله» ساهم في إعادة النظر في الترفع الأميركي عن الانخراط. وبالتأكيد، رأت روسيا أن هذا الدور العسكري المباشر لإيران و «حزب الله» ليس مفيداً لما وضعته مؤخراً كأولوية لها وهو المؤتمر الدولي – كما تسميه – وليس جنيف – 2 بحسب التسمية الشائعة.
نائب وزير الخارجية الروسي، غينادي غاتيلوف، في حديث معمق ومهم مع «الحياة» أثناء انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في البحر الميت، أوضح انزعاج موسكو من الانخراط العسكري عبر «حزب الله». قال إن التدخل «من حزب الله أو أي دولة أو طرف هو تدخل غير منتج للعملية السياسية» وإن أي «تدخل خارجي في الأزمة السورية سيزيدها اشتعالاً».
روسيا تنفي أن يكون دورها في سورية تدخلاً يزيد سورية اشتعالاً. الأسلحة التي تقدمها للنظام، بسحب غاتيلوف، «أسلحة دفاعية صرف لا تُستخدَم في حرب أهلية كمضادات الطائرات». هدفها، كما أوحى، هو الرد على اعتداء إسرائيلي على رغم أنه عارض قطعاً فتح جبهة الجولان أمام المقاومة، كما يريد «حزب الله». وما كان مبطّناً في إجابته هو أن أحد أهداف هذه الأسلحة هو الرد على أعمال عسكرية من حلف شمال الأطلسي، إذا وقعت فعلاً.
فموسكو تسير بحذر بين السِكتين العسكرية والسياسية حرصاً على صياغة علاقة مميزة مع واشنطن يحصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ما يريد منها بموجب الصفقة الكبرى، أو ضماناً لاستمرار موازين القوى العسكرية لصالح حلفائها في محور الممانعة.
في هذا المنعطف، تنصب الديبلوماسية الروسية على حياكة العلاقة مع الإدارة الأميركية عبر «الكيمياء» بين سيرغي لافروف وجون كيري. فلقد انزلقت العلاقة مع وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون في أعقاب تراجع لافروف عما تم الاتفاق عليه في جنيف – 1، أي عملية سياسية انتقالية جدية في سورية تستبدل الرئيس بشار الأسد ونظامه تدريجياً. اليوم، يلتقي الرجلان بعضهما تكراراً بابتسامات عريضة، وبالأحضان. فلافروف المخضرم في الملف السوري يجد في كيري رجلاً جديداً على الساحة آتياً من ماضٍ تميّز بإعجاب كان يكنّه بعمق لبشار الأسد وعقيلته أسماء. يجد فيه الفرصة المؤاتية لتحضير قمة تجمع بعد أسبوعين باراك أوباما وفلاديمير بوتين كقائدين على قدم المساواة لدولتين «عظميين» في سورية وليس لدولة القطب الواحد القائد.
مؤتمر جنيف – 2 محطة تمهيدية تفضّل موسكو أن تسمّيها المؤتمر الدولي لأنها تريد الحديث عن الصفقة الكبرى عبر سورية – وهذا يتطلب من وجهة نظرها بالضرورة أن تكون إيران على الطاولة وجزءاً أساسياً من التفاهمات. غينادي غاتيلوف كان صريحاً بقوله إن لإيران دوراً مهماً في سورية وإن المملكة العربية السعودية وقطر تخطئان في معارضتهما انضمام إيران إلى مؤتمر البحث في مستقبل سورية. بل إنه قال علناً أن لا مانع أن تكون إسرائيل أيضاً على طاولة المؤتمر الدولي في شأن سورية ومستقبلها.
منطقياً، إذا تم عقد مؤتمر دولي حول سورية، يجب أن تشارك فيه الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن لا سيما أن اثنتين منها – روسيا والصين – تنضمان إلى حلف الممانعة الداعم للنظام في دمشق. يجب أيضاً، منطقياً، أن تشارك الدول التي تلعب أدواراً مباشرة في الحرب السورية وعلى رأسها إيران دعماً للنظام والسعودية وقطر دعماً لإسقاطه. بل أن لإسرائيل أيضاً دوراً بصفتها جارة مباشرة لسورية، وكذلك العراق والأردن ولبنان بشقه الرسمي وبشق «حزب الله» منه الذي يحارب في سورية – هذا منطقياً. إنما سياسياً وواقعياً، تدرك موسكو استحالة جمع إسرائيل وإيران والمملكة العربية السعودية على طاولة واحدة. لذلك، إنها تركّز على إيران بهدف تشريع دورها داخل سورية – وهذا ما تعارضه الدول الخليجية.
مواقف العديد من دول مجلس التعاون الخليجي تشوبها أخطاء «شخصنة» الصراع في سورية وكأن هذه حرب انتقام شخصي وتعهدات الكبرياء. إسقاط النظام في دمشق بات هدفاً معلناً لدول خليجية ارتأت أن تضع ذلك الهدف نصب عيونها. ليس هناك استراتيجية تطمئن إلى اليوم التالي. ليس هناك في الواقع أية استراتيجيات وإنما هناك سلسلة تكتيكات في حرب الاستنزاف التي «أفغنت» سورية وشرّعتها على الحروب المذهبية. حتى المعونات إلى الدول المجاورة لاستيعاب اللاجئين تُقطّر و «تُشخصَن». مجلس التعاون الخليجي يجب أن يعقد اجتماعاً طارئاً يتمعَّن في معنى انتقال النزاع إلى العراق أو إلى الأردن أو لبنان. فالإجراءات الاستباقية ضرورة مُلحة تشمل تقاسم دول الخليج عبء اللاجئين والنازحين بدلاً من الهروب إلى الأمام. الأردن خائف من استخدام تدفق اللاجئين إليه لتسريب عناصر متطرفة بمهمة ضرب استقراره وزعزعة الحكم فيه. هكذا يمكن الانتقام من الأردن وتسليمه هدية إلى إسرائيل التي طالما قالت وأثبتت أنها لا تريد أي حل للمسألة الفلسطينية وأن الحل الوحيد في رأسها هو تحويل الأردن إلى الوطن البديل للفلسطينيين.
لبنان مهدد بنيوياً بسبب إنكاره أزمة تدفق اللاجئين لأسباب سياسية ومذهبية في الوقت الذي تهدد فيه هذه الأزمة بانهيار البنية التحتية. الانصباب على مسألة الانتخابات النيابية وتشكيل حكومة جديدة شغل البلد كله بعيداً عن خطر انهيار بنيته التحتية. وبعدما تمخض الجبل، انتج الفأرة التي كانت مخبأة في صدر الفاعلين الذين أرادوا أساساً إجهاض إجراء الانتخابات في موعدها وعدم السماح بحكومة مختلفة عن حكومة الرئيس المستقيل نجيب ميقاتي التي كان دور «حزب الله» فيها واسعاً وعميقاً جذرياً. هكذا نجح «حزب الله» وحلفاؤه في «8 آذار» بتأجيل إجراء الانتخابات اللبنانية إلى ما بعد الانتخابات السورية المزمع عقدها بعد سنة مع الاحتفاظ بحكومة من صنف يلائمهم.
البعض يرى أن في ذلك شراء لاستقرار يحتاجه لبنان أشد الحاجة. أي أن إرضاء فريق «حزب الله» مع انشغال الحزب في الحرب السورية ومستنقعها قد يرحم لبنان من مفاجأة أمنية عسكرية تدمره. البعض الآخر يخشى أن يأتي الانتقام من تورط «حزب الله» في الحرب السورية إلى داره في لبنان وذلك من أجل إشغاله في بلاده عن استمراره في بلادهم في تغيير المعادلة العسكرية.
لا أحد يضمن هذا السيناريو أو ذاك لا سيما عندما تخوض حروب سورية أطياف وأشكال من المقاتلين الذين يستفحلون في استنزاف بعضهم البعض في المعارك المذهبية.  

السابق
أميركا تمحو الشرق الأوسط؟
التالي
الأمل بجيلٍ عربيٍّ جديد مثقّف وملتزم