لبنان يمدّد لأزماته

صدق الذين قالوا منذ أشهر عدة إن هناك من يناور لجرّ اللبنانيين إلى الاقتراع وفق "قانون الستين"، الذي رجمته معظم القوى السياسية وقالت فيه أكثر مما قال مالك في الخمر، لكنها في المقابل لم تسمح لأي قانون انتخابي أن ينازعه جدياً، بما في ذلك القانون الذي وافقت عليه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وأحالته إلى المجلس النيابي، فكان مصيره النوم في الأدراج.
سقط اقتراح "قانون النسبية" وكأنه "رجس من عمل الشيطان"، لأنه بالفعل طريق توصل إلى إحداث تغيير حقيقي في النظام القائم، وفي الوجوه المتوارثة نيابياً منذ عقود.
وسقط اقتراح "القانون الأرثوذكسي"، بعد أن أفزع الطبقة السياسية، لأنه يعكس بصدق صورة حقيقية لوجه النظام السياسي البشع، الذي لا حياة له إلا بالاقتيات من دماء اللبنانيين، التي تسفكها توترات العصبيات الطائفية والمذهبية، وكل عصبية ضيقة مثلها.
كذلك سقط ما سُمِّي "اقتراح القانون المختلط"، لأن طرحه في الأساس لم يكن جدياً ولا صادقاً، وكان اقتراح اللحظة الأخيرة لرفع العتب، خصوصاً أن قوى 14 آذار لم تعرضه على اللجنة النيابية ذات الاختصاص، كما أنه كان خارجاً عن قواعد المحاصصة المألوفة وأعرافها المعروفة.
إذا، "ليس في الميدان غير حديدان".. هذه هي مآل أحوال "الكباش السياسي" الدائر في البلاد خلال الأشهر الأخيرة المنصرمة.
ليس في الأمر أي مفاجأة، وإن كان المواطن اللبناني في حيرة من أمره، بعد كل المناورات التي مورست في الوسط السياسي، وأمام وسائل الإعلام، إذ كيف يُعتبر "قانون الستين" ميتاً قبل أيام، وإذ هو "الحي" الأوحد اليوم؟ وكيف تتأمن للمشروع الأرثوذكسي أكثرية نيابية، ثم يتبين أنه عاجز عن المرور في مجلس النواب؟ وكيف يتقدم رئيس الجمهورية الصفوف منادياً، هو وكتل نيابية أخرى، بضرورة اعتماد "النسبية"، وإذ بهذا المصطلح يصبح شيطاناً يستعاذ منه؟ وكيف تُحفظ مناطق وأقضية عصيّة عن أي معايير انتخابية، حفاظاً على "اقطاعية بيك" لا يمكن إحراجه؟
مناورات ومناورات مضادة، ضحيتها المواطن المسكين الذي يلجأ إلى التنجيم لمعرفة الحقيقة من دون جدوى، ثم يفاجَأ بأن الحكومة التي أقالها رئيسها احتجاجاً منه على عدم تعيين لجنة الإشراف على الانتخابات، تجتمع وتعيّن اللجنة المذكورة! في حين أن المحتجين على عدم التمديد لضابط تقاعد، نسوه قبل غيرهم، فما الذي كان يمنع حصول "الصفقة" التي قضت باستكمال الإجراءات القانونية للانتخابات، مقابل تأمين الأصوات النيابية الموافقة على التمديد للمجلس النيابي؟
كانت قوى الرابع عشر من آذار تراهن على فرض "قانون الستين"، وإجراء الانتخابات في موعدها، فأُحرجت بالمشروع الأرثوذكسي، الذي أخرجها من هذا التوجه، ثم بات رافضو "الستين" يحرجون الآخرين بإصرارهم على السير في الانتخابات وفق القانون السائد (الستين)، في حين أن جميع الأطراف السياسية تعلن أنها ضد التمديد، رغم معرفتها بأن إجراء الانتخابات أمر شبه مستحيل في ظل الظروف الأمنية القائمة في لبنان، والمقبلة عليه، على إيقاع اللهيب المشتعل في الجوار القريب.
هي "بروباغندا" لا تحترم عقل المواطن، ولا ترى فيه سوى "قطيع" يساق سوقاً إلى أقلام الاقتراع، مدفوعاً بعوامل التخويف من الآخر، وبالتحريض عليه، في تعبير عن أزمة نظام فاشل يحكم لبنان، تقاتل بعض القوى، خصوصاً قوى 14 آذار، دفاعاً عنه، وتسعى لإبقاء الحال فيه على ما هي عليه، من خلال فرض خيارات تؤدي نفس الغرض: التمديد أو "الستين"، وهما وجهان لحقيقة واحدة، أو الفراغ الذي يعني الفوضى، وهو ما تريده القوى التي تتعرض للجيش هذه الأيام، بالإعلام حيناً، وبالرصاص أحياناً، في ظل نظام لم يعرف يوماً كيف يبني وطناً، ولا حتى كيف يحفظ أجياله الشابة من الاغتراب بحثاً عن وظيفة تؤمن لقمة العيش.. نظام احتج رأس قوى 14 آذار مؤخراً على توجيه انتقاد له لأنه لم يُقمْ دولة ولا عرف كيف يعزز جيشه، ولا كيف يحمي كرامة هذا الجيش، الذي يُفترض أنه سياج الوطن، فإذا نحن أمام حقيقة مُرّة سبق أن جرى التحذير منها: هناك من يريد استهداف الجيش لمنعه من ممارسة دوره، لأن الفوضى وتعطيل دور الجيش هما وسيلة الذين يريدون فرض إملاءات الخارج وزجّ لبنان في الحرب الكونية الدائرة ضد سورية، خصوصاً بعد أن أسقط الجيش العربي السوري خطة إقامة مناطق لبنانية مفتوحة على الداخل السوري، تتيح للمتآمرين التدخّل منها ضد سورية.
على أن أفضل ما قد تتفتح به قرائح المسؤولين غداً، هو قولهم إن إجراء الانتخابات وفق "قانون الستين" لن يُحدث تغييراً، وسيعطي النتيجة ذاتها لانتخابات العام 2005، وبالتالي سيكون الأمر تمديداً للمجلس النيابي الحالي، ولو بطريق الانتخاب، وهذا الأمر مكلف مادياً وأمنياً، والأفضل بدل إجراء الانتخابات، الوصول إلى النتيجة ذاتها، ومن دون تكلفة، عبر التمديد للمجلس الحالي.
إنه نظام يستنسخ نفسه، ويمدد لأزماته، بعد أن فشل في تجديد آلية إنتاج سلطته انتخابياً، وبات عالة على اللبنانيين، ونذير فتن وحروب تتكرر بين عقد وآخر.

السابق
مرحلة مضطربة قبل ولادة الجمهورية الثالثة
التالي
يوم طارت لقمة النيابة من الأفواه الجائعة