لسنا ارهابيين.. حتى نعتذر

من تابع الصحف ومحطات التلفزة البريطانية في الايام الثلاثة الماضية، يخرج بانطباع مفاده ان البلد في حالة حرب عالمية عظمى، وان طائرات الاعداء تقصف المدن البريطانية بصواريخها النووية

اعلان حالة طوارئ قصوى، رئيس الوزراء ديفيد كاميرون يقطع زيارة رسمية ويعود فورا، ويجتمع فور وصوله باللجنة الامنية العليا (كوبرا) التي تضم قادة اجهزة المخابرات والشرطة.

كل هذا حدث لان شابين مسلمين من اصل نيجيري، احدهما اعتنق الاسلام قبل عشر سنوات، اقدما على قتل جندي بريطاني بطريقة دموية بشعة، وقال شهود عيان ان احدهما كان يقول ‘الله اكبر’ وهو ينهال على الجندي بساطور.

هذه الجريمة مدانة في كل القوانين، والطريقة التي نفذت من خلالها تنطوي على الكثير من الوحشية والنزعة الانتقامية التي تخفي حقدا دفينا وتعطشا لسفك الدماء.

منذ اللحظة الاولى لانتشار نبأ حدوث هذا الهجوم على الجندي، وبثّ صور القاتل وفي يده اليمنى ساطور ملوث بدماء الضحية، اما راحة اليد اليسرى فكانت حمراء قانية يلوّح بها صاحبها لكاميرات اجهزة الهاتف النقال المتعطشة لالتقاط الصور، نقول منذ الدقائق الاولى بدأت الحملات المكثفة لتجريم الاسلام والمسلمين، والصاق تهمة الارهاب بهم، بطريقة مباشرة او غير مباشرة.

لم ينتظروا نتيجة التحقيقات، ولا اكتمال البحث الجنائي، وتحليل شخصية المتورطين، وهل كانا تحت تأثير الكحول او المخدرات، او انهما مجندان من جهات تريد تأثيم الاسلام والمسلمين، او يعانيان من امراض نفسية او عقلية.


الصحافة البريطانية، الرصينة منها والشعبية، التقت كلها على ارضية الاثارة، ونشرت الصورة نفسها على صدر صفحتها الاولى، والدماء تقطر من يدي صاحبها، مع ترديد لكلماته التي تهدد بعدم تمتع البريطانيين بالأمان طالما ان هناك مسلمين يقتلون في افغانستان والعراق.

كاميرون رئيس الوزراء الذي تزعم مجلس حرب اعلن ان هذا اعتداء على بريطانيا مثلما هو اعتداء على المسلمين. اي تبسيط هذا، مقتل جندي يشكل عدوانا على بريطانيا العظمى؟

بعد دقائق من اعلان نبأ وقوع الجريمة، وبدء حملات التحريض الاعلامي ضد المسلمين، تدفق المئات من انصار الجماعات اليمينية المتطرفة الى مكان الجريمة مطالبين بالثأر والانتقام، بينما اختار البعض الآخر الهجوم على بعض المساجد.

بوريس جونسون عمدة مدينة لندن الكبرى الذي نفى ان تكون هناك اي علاقة بين هذا الهجوم والسياسة الخارجية البريطانية في الشرق الاوسط، نسأله وكل الذين يحاولون تبرئة هذه السياسة ونقول: لماذا لم تشهد شوارع لندن اي اعتداءات من قبل مسلمين قبل توريط توني بلير رئيس الوزراء الاسبق ومبعوث السلام الحالي بلاده في حرب دموية في العراق فبرك اسبابها، وادت الى مقتل مليون انسان؟

نزيد المستر جونسون من الشعر بيتا ونقول ان الشيخ خالد الفواز سفير زعيم تنظيم القاعدة كان يقيم في مكتب علني في شارع اكسفورد الشهير، وكان هذا المكتب بمثابة ممثلية للتنظيم في العاصمة البريطانية، والشيء نفسه يقال ايضا عن السيد ابو مصعب السوري الذي اقام مركزا للدراسات في مكتب قريب.
كل هذه الضجة المفتعلة، وكل هذه المبالغة جاءت لان هذا القاتل اعتنق الاسلام وكبّر ‘الله اكبر’ عندما ذبح ضحيته، ولو كان القاتل من ديانة اخرى لجرى نشر الخبر في الصفحات الداخلية، وبحرف صغير.

مرى اخرى ندين هذه الجريمة، وكل جرائم القتل المماثلة، سواء ضد بريطانيين او اي جنسية اخرى، ولكن من حقنا ان نتوقف قليلا ونناقش الأمر بهدوء، وبعد ان هدأ غبار التحريض ضد الاسلام قليلا:

الضحية لم يكن مدنيا، وانما جندي خدم في افغانستان لمدة سبع سنوات، فهل فكر البريطانيون ان جنودهم أيضا يقتلون مدنيين ابرياء أثناء حروبهم الخارجية هذه، وهل يدركون ان مقاتلي حركة طالبان يقاتلون لأنهم يريدون اخراج قوات احتلال اجنبية من بلادهم؟

لقد أرسلت السلطات البريطانية اكثر من عشرين الف جندي الى افغانستان يتركزون في اكثر من مدينة، مثلما ارسلت العدد نفسه او اكثر او اقل الى العراق، ألم تنخرط هذه القوات في عمليات عسكرية ادت الى سقوط آلاف القتلى والجرحى، مستخدمة كل انواع الاسلحة من طائرات وصواريخ؟
ألم تكن الحكومة البريطانية لاعبا رئيسيا في القصف الجوي الذي مارسته الطائرات والسفن الحربية لأكثر من اربعة اشهر في ليبيا، ولا نعرف حتى الآن، بل ممنوع علينا ان نعرف كم عدد القتلى والجرحى الابرياء الذين سقطوا بسببه؟

للمرة المليون نقول ونؤكد اننا ضد الارهاب، وضد جرائم القتل، واننا ضد جريمة قتل الجندي البريطاني دون تردد، ولكن نجد لزاما علينا كعرب ومسلمين، اكتوينا بنيران القتل البريطاني والامريكي ان نصرخ من شدة الألم.

الجالية الاسلامية في بريطانيا يزيد تعدادها عن مليونين ونصف المليون مسلم، بينما لم ينفذ عملية القتل الاجرامية هذه الا شخصان فقط هناك من يشكك بإسلامهما وسلوكهما، ونؤكد من جانبنا ان دوافعهما ما زالت غامضة.

المخابرات البريطانية كانت تراقب الشخص الابرز منفذ الجريمة، فلماذا لم تعتقله مبكرا، ولماذا، وهي التي تراقب كل صغيرة وكبيرة، وتسجل جميع المكالمات الهاتفية، وترصد تحركات المشبوهين، لم تمنعه من تنفيذ هذه الجريمة؟

انا شخصيا، وبعد ان فبرك بلير الرجل الاقوى والاكثر نفوذا في حينها، اكذوبة اسلحة الدمار الشامل، وملف اعدادها لضرب بريطانيا في اقل من خمس واربعين دقيقة، بدأت اصدق النظريات التآمرية علينا كمسلمين وعرب، ولا اتقبل كل ما يطرح علينا من معلومات وروايات بالطريقة التي كنت اتقبلها قبل غزو العراق، واعتقد ان هناك الكثيرين مثلي مسلمين كانوا او اوروبيين.

اعيش في بريطانيا منذ 35 عاما وعايشت هجمات الجيش الجمهوري الايرلندي في قلب لندن، ولم اسمع من يقول ان هذا ارهاب مسيحي او كاثوليكي، ولم اقرأ ان كاردينالات الطائفة المسيحية قد خرجوا معتذرين عن هذه الهجمات، بالطريقة التي سارع فيها قادة الجالية الاسلامية لإدانة الجريمة، وهي طريقة تنطوي على الاحساس بالذنب.

في شهر آب (اغسطس) عام 2011 دهست سيارة شرطة بريطانية مسلمين اثنين كانا خارجين من مسجد بعد صلاة الجمعة، وقبل ذلك بيوم قتلت الشرطة مسلما من اصل افريقي بالرصاص في ظروف غامضة، ولم يعتذر لنا قادة الكنائس المسيحية ولا الشرطة.

الارقام تقول ان اربعة آلاف مسلم حصدت ارواحهم صواريخ طائرات بدون طيار (درونز) في افغانستان معظمهم من الابرياء، ومن بينهم اطفال ونساء كانوا يحضرون حفل زفاف، فهل اعتذر لنا احد؟ انا شخصيا لم اسمع باعتذار صريح كهذا، بل سمعت يوم امس الرئيس باراك اوباما يقول لنا انه سيستمر في ارسال هذه الطائرات بل والمزيد منها لقتل الارهابيين.

من حق بريطانيا ان تدافع عن امنها، وارواح مواطنيها، فهذا من ابرز واجبات حكوماتها، ولكن من حقنا ايضا ان نقول ان سياستها الخارجية، وحروبها في العالم الاسلامي، التي هي في الغالب تنطلق من منطلقات استعمارية او مصالح اقتصادية، تلعب دورا رئيسيا في تهديد هذا الامن والاستقرار، وتلعب دورا في تعريض حياة مواطنيها للخطر.

المتطرفون موجودون في كل المجتمعات وليسوا حكرا على المجتمعات الاسلامية فقط، فمن قتل 180 شخصا في مجزرة اوسلو، ومن فجر مقر البلدية في اوكلاهوما لم يكونا مسلمين، وكان الأول ارهابيا يمينيا متطرفا وكارهاً للاسلام. نقول هذا للتذكير فقط لمن يحاول ان يلصق تهمة الارهاب بنا فقط كمسلمين.

السابق
واشنطن تعرب عن قلقها من احتمال انزلاق الحرب الأهلية في سوريا إلى لبنان
التالي
ريفي وتنانير المحاور