حرب فيليب سالم وحرب لبنان

كم يبدو مستهجناً الحديث عن شخصية لبنانية ناجحة من مستوى فيليب سالم، في الوقت الذي لا تفوح من أخبار لبنان، أحزاباً وقيادات وسياسيين، سوى رائحة العفن والفشل.

ما هذه المفارقة؟ لا تتاح للبناني فرصة النجاح إلا إذا خرج من هذا الأتون الطائفي ومن هذا البحر من الفساد الذي اسمه لبنان؟ داء ينخر في قلب الوطن، يمزقه، يقتل كل روح إبداع فيه، يهجّر الكفاءات من أبنائه، فلا يبقى في مدنه وقراه إلا العاجزون عن الرحيل على أول طائرة، أو المتهالكون والمتسابقون لأكل ما تبقى فيه للأكل، أو ما هم موعودون بأكله، عندما تتفجر الثروات المنتظرة من جوف البحر.

مثل كثيرين من اللبنانيين الذي هجروا بلدهم بسبب الحرب الأهلية، أتيح لفيليب سالم أن يعمل وأن ينجح، بل أن يصبح من الرواد في الحقل الذي تخصص فيه، حقل مكافحة داء السرطان والبروز في مجال البحث العلمي عن أحدث الطرق للاكتشاف المبكر وأنجعها لهذا المرض ومن ثم لتطوير وسائل العلاج. كان يمكن أن يعتبر فيليب سالم أن أي بلد يعمل فيه ويعالج مرضاه هو بمثابة بلده. فالدول ومؤسساتها الطبية تتسابق للإفادة من خبرته. لا مشكلة لديه في الحصول على أي جنسية ولا تقف الظروف المادية حائلاً بينه وبين الإقامة حيث يختار. على رغم ذلك ظل فيليب سالم حيثما حلّ، ابن منطقة الكورة، وابن بلدة بطرّام تحديداً، يفاخر بأن يضع على طاولة عيادته في مركز علاج الأورام السرطانية في هيوستن قنينة تحوي بعضاً من زيت الكورة الشهير، وإلى الجانب الآخر علبة صغيرة جمع فيها شيئاً من تراب القرية، وفوق المكتب لوحات تمثل مشاهد من بطرّام أهداه إياها صاحب جريدة «النهار» الصحافي الكبير الراحل غسان تويني، الذي امتدت صداقته بفيليب سالم لأكثر من ثلاثين سنة.

سئل مرة ماذا يعني له أن يكون لبنانياً؟ أجاب: لو لم أكن لبنانياً لما كنت أعرف من أنا. أنا أحب لبنان وشعبه، وأفخر بكوني لبنانياً. ومع أني أعيش في الولايات المتحدة، وسافرت حول العالم، فإن البلد الوحيد الذي أشعر بأنه بلدي هو لبنان. وكطبيب أنا أشعر بالطبع بأني مواطن عالمي. فالعالم كله بلدي والإنسانية جمعاء هي عائلتي. غير أن هويتي الثقافية والسياسية هي لبنانية.

في ظروف صعبة خرج فيليب سالم من لبنان عام 1987 بعد أن عانى خلال السنوات الأولى للحرب مع عائلته المؤلفة من زوجته وأطفاله الثلاثة، واضطر للمبيت في الملاجئ كما حصل مع كثير من العائلات، وتعرض منزله للقصف، ونجا من الخطف في حادثة لا ينساها وعلى يد مريض سابق بالسرطان شفي على يده، وكان مكلفاً تنفيذ عملية خطفه من إحدى الميليشيات آنذاك. دق ذلك الشاب الملتحي على باب شقته. لم يتعرف إليه فيليب للوهلة الأولى. عرّف الشاب عن نفسه وأبلغ طبيبه بضرورة عدم قطع الطريق الفاصل بين «البيروتين» للذهاب إلى مستشفى الجامعة الأميركية حيث كان يعالج، لأن هناك خطة لخطفه لمبادلته بمخطوفين من الجهة الأخرى. كان ذلك بمثابة جرس الإنذار. حزم فيليب وعائلته حقائبهم وغادروا إلى هيوستن، في رحلة يتذكر شعوره خلالها ويروي كم كانت صعبة عليه. يقول: قمت بالرحلة من بيروت إلى هيوستن أكثر من مرة فيما مضى، لكن تلك المرة مختلفة. فأنا أترك بلدي وعائلتي وأصدقائي الذين قد لا أراهم مجدداً. عندما وصلت إلى هيوستن شعرت بأن جسدي انقسم إلى نصفين: واحد في هيوستن والثاني في لبنان.

من الصعب التمييز بين فيليب سالم، المواطن اللبناني المثالي، وفيليب سالم الطبيب والجراح المثالي. في رأيي أن أحدهما يكمل الآخر، وأن الإنسان في فيليب سالم هو الذي يحدد القيم الوطنية التي يعتنقها في علاقته ببلده، والقيم الطبية التي يعتنقها في علاقته بمهنته. وكما ينظر إلى لبنان من موقع مثالي، ويستشهد بجبران خليل جبران، كاتبه المفضل، في مقولة «لكم لبنانكم ولي لبناني»، كذلك يختزل نظرته إلى علاج السرطان بشعار «المحبة والأمل» الذي رفعه على مدخل المركز الطبي الذي يحمل اسمه في هيوستن. يصف علاقته بمرضاه بأنها «علاقة مقدسة» ويقول: إن الله وحده يهب الحياة وأنا هنا فقط للمساعدة على شفاء المرضى. إن التغلب على الموت وإنقاذ حياة المريض هما عمل إلهي. لهذا، فهذه العلاقة بين الطبيب ومريضه ليست علاقة طبيعية. إنها علاقة بين إنسان مهدد بالموت وإنسان آخر يعمل بجهد لإنقاذ حياته. والفرق الوحيد بين طبيب عظيم وطبيب عادي هو أن الأخير ينظر إلى مصلحته قبل مصلحة المريض. بينما لتكون طبيباً ناجحاً عليك أن تضع مصلحة مريضك قبل مصلحتك وقبل سعيك إلى الشهرة أو الثروة.

السابق
كبارة: على النيابة العامة توقيف رفعت عيد وعصابته الذين يرتكبون المجازر
التالي
المالكي.. والبيان رقم واحد!