بلاد مقوّصة!

ليس كفراغ السلطة والحكم والمؤسسات ما يثير الذعر في نفوس الناس. الناس الذين ليس عندهم ظهر يحميهم من سطوة الميليشيات والدويلات والجيوش الجرّارة التي تخضع لمشيئة متنفّذ في هذه الفئة، أو في تلك.
وهذا الفراغ المخيف المدمّر يعمّ لبنان ويحاصره من الجهات الأربع.
ولا مَن شاف ولا مَن دِري. بلاد فالتة. فالتة كنعجة بلا راع. وسائبة بلا ناطور أو "وكيل". حتى قيل فيها إنها بلاد مقوّصة، لا مقتولة. مقوّصة ممن يدّعون الحرص عليها وحمايتها. مقوّصة جداً وكثيراً. وكل يوم يقوّصونها في مكان. في موقع. في غزوة. لتظلّ مقوّصة. وليظلّ هذا اللبنان مخربطاً، ملخبطاً.
هذا الوصف الهادئ لحال لبنان اليوم، وبعد ثلاثين سنة من الفوضى والاضطرابات والاغتيالات والنكسات والأزمات التي تُبعد مريديه ومحبّيه والمعجبين به من العرب والأوروبيين والأميركيين… ومن أبنائه المنتشرين والمشرّدين، هذا الوصف إنما هو مضبطة اتهام صريحة لكل هؤلاء الجالسين في فيترينا السلطة، والسلبطة، والعنطزة، والهيمنة، فوق النفوذ والاستئثار بكل ما في الدولة ووزاراتها.
بلاد مقوّصة ببنادق ورصاص أبنائها، إنما لحساب "الآخرين". يقوّصونها بناء على طلب من الآخرين. والطلب ليس مجاناً. ومن زمان، من أيام العثمانيين، والإنكليز، والفرنسيين، والأميركيين، والمصريين، والفلسطينيين، والسوريين.
واليوم، مثلاً، اليوم يعني منذ سنتين ثلاث، يقوّصونها في خاصرتها الطرابلسية. أو في خاصرتها الأوسع، بحيث يتقوّص الشمال كله. فهذا أمر مطلوب.
لسبب أو لآخر تعتقد البقية الباقية من العقلاء، النظيفي الضمائر والقلوب، أن لبنان يمر في أخطر مرحلة من مراحله.
وإلى الرئيس ميشال سليمان يتوجّهون، برجاء وإلحاح وإصرار، أن يخاطب اللبنانيين بصراحة لا لُبس فيها ولا غموض. ويشرح لهم، بالأسماء والصفات والتفاصيل، كل ما يفعله بعض المسيطرين بقوة السلاح وقوة الآخرين الذين يستقوون بهم، وآثار هذه الأفعال والبدائع على لبنان المقوّص.
حكومة مستقيلة لا تصرّف شيئاً. ولا يهزّ وجدانها ما يُحاك للبلاد، انطلاقاً من طرابلس والشمال. وقد لا يكون في إمكانها أن تفعل. ولكن فليُسعف النطق إن لم يُسعف الحال.
وحكومة قيد التأليف منذ شهر ونصف شهر وزيادة. يحاصرونها، هم ذاتهم، بالمطالب الشخصانية، والحصص، والوزارات التي تبيض ذهباً، ومعها الثلث المعطّل.
والرئيس تمام سلام اللبناني الأصيل، الحريص على وحدة العيش، والصيغة، والميثاق، والنموذج، آثر الصبر والصمت. على أمل أن يحسّ هؤلاء الفجّار بشيء من الوطنية والمسؤولية.
ولكن هيهات هيهات، إنها بلاد مقوّصة ويقوّصونها كل يوم.

السابق
موسكو أقنعت دمشق وواشنطن تواجه صعوبات
التالي
“تكريس الطائفية” حملة هدفها الصدمة الايجابية