قانون الانتخاب لا يشغل اللبنانيين

على بعد مئات الخطوات من المجلس النيابي، لا يشعر أحد بضجيج الصخب هناك، تسير الحياة طبيعية بمعزل عمّا ستتوصل إليه نقاشات النواب، غير مبالية بمضمون النقاش وتفاصيله. خارج دائرة المسيّسين، يبدو خيارا التمديد للمجلس النيابي والتجديد، سواء لهذا المجلس أو لنسخة جديدة عنه، مجرد وجهين لنتيجة سياسية واحدة

يقارن البائع في الدكان الصغير، قبالة فندق البريستول، بين عدد الصحف التي يبيعها يومياً وعدد أوراق اللوتو، ويضحك كثيراً. تخبئ «الحمرا» بضعة أحياء فقيرة شوارعها أضيق من أن تتسع لسيارات الأحياء الفخمة المحاذية لها. تنبعث من المنازل رائحة قهوة أقوى من رائحة عرق المدينة ظهراً وكحولها مساء. يضيق الدرج بعد مستشفى الجامعة الأميركية ويتسع على وقع خطوات الشيخ الذي سيلبس بآذانه بعض دقائق تمثال الرئيس جمال عبد الناصر في عين المريسة صوتاً. تضيء لمبات الدكاكين طريق عودة الشيخ إلى منزله. يتفرج أصحابها على جارهم ينشر الصحف فوق ثلاثة حبال، متبسّمين لعناوينها. تكفيهم صباحاً العناوين، ومن يخسر ظهراً في الطاولة يشتري للفائز صحيفة يتسلى بكلماتها المتقاطعة. لا يكترثون لما في الصحيفة غير العناوين والكلمات المتقاطعة، يعرفون الباقي. يثير السؤال عن قانون الانتخاب ضحكهم، يعاملون سائلهم عنه بوصفه أحد المتعثرين بسكرهم فجراً في طريقه إلى البحر. والخلاصة أن «لا علاقة لنا بقانون الانتخاب». أكثر الأسئلة جدية الذي يمكن مصادفته على هذا الصعيد، يتعلق بهوية الفائز بفضل هذا القانون أو ذاك. تتداخل «الميثاقية» بـ«النصاب» و«تصويت الأكثرية» في النقاش. يختلط الحابل بنابل مقدمات الفترات الصباحية الإذاعية. قبل عامين، كان النقاش في النسبية يسبب بلبلة عقلية، فكيف الحال بعد اختلاط النسبية بـ«الأرثوذكسي» وطبخة النائب جورج عدوان التي خلط فيها النسبي بالأكثري، قبل أن يضيف الرئيس نبيه بري على المختلط مبدأ التصويت المذهبي في الاقتراح الأرثوذكسي. كل هذا يحكم بالضياع على من ينوي أن لا يضيع.
كان في الحيّ فوّال، أقفل. خلف فندق الفينيسيا والبنايات الشاهقة المحيطة به بنايات قديمة، كان أصحابها على وشك دهنها حين اندلعت الحرب. انتهت الحرب وشوّهت «سوليدير» الوسط البيروتي وفتح المجلس النيابي أبوابه ولم تنته ورشة بنائها بعد، لا يلوّن غير الغسيل شرفاتها. يذهب مجلس نيابي ويأتي آخر، تتغير حكومات، والغسيل هو نفسه. تبيّضه الشمس، وليس أدوية التنظيف. تحاضر الحاجة عند الخامسة صباحاً عن الأساسيات والكماليات. المنقوشة من الكماليات، أما قوانين الانتخاب فتروي الحاجة، لدى سؤالها عن رأيها بها، عن بائع «غزلة» رأى حفيدتها مساء أمس تشتهي السكر الزهريّ فوق ذراعه، فعاد خطوتين بعدما أشارت الحاجة إليه ليكمل طريقه، ليهدي الفتاة واحداً من أكياسه الصغيرة. ثمة فقر آخر هنا. فقر على تماس يومي مباشر مع غنى فاقع. فقر لا يهمه قانون الانتخاب؛ يرى فيه ترفاً لا يقدم موقفه منه شيئاً أو يؤخره. «لن يغير قانون الانتخاب حياتنا؛ لا نبالي به». ليست ورقة اللوتو من الكماليات، يستفتح صاحب الدكان بألفي ليرة تخبئهما الحاجة منذ يومين في عبّها.
من يزحفون صباحاً عند الحائط البحري السفلي باتجاه الـ«صوفات» الخضراء السابحة بين مياه المجارير الصفراء من جهة، ومياه البحر المالحة من الجهة الأخرى، ليسوا صيادي بيروت التقليديين: بدأ هؤلاء الصيد بوصفه هواية مجانية، ولم يلبثوا أن وجدوا فيه عملاً ثانياً يغني موائدهم بما لا يمكن وظيفة ثانية توفيره لأسرهم. يجاور سائق الأجرة هنا أستاذ المدرسة ومعلم الباطون. لا يزعجون بعضهم بعضاً صباحاً بالأحاديث، يكتفون بصباح الخير سريعة. يستعيضون عن أخبار الصحف بمسجلات يتحكمون عبر كاسيتاتها القديمة بأصواتها. لا تصلهم كل ثانية رسالة طارئة من أحد المواقع الإخبارية، وتسير رغم ذلك أيامهم بشكل طبيعيّ. «حياتنا هي نفسها مهما كان قانون الانتخاب»، يقولون. يذهب أحدهم أبعد من ذلك في إشارته إلى أن حياته ستكون هي نفسها أيضاً «أياً كان المجلس النيابي».
لا فرق بين التمديد والتجديد. قلة قليلة «وحياة عيني» جان أوغاسبيان وسيرج طورسركيسيان تهتم. تتثاءب الصبايا في السهرة حين يعرج أحد أصدقائهن على قوانين الانتخاب؛ ليس في تلك القوانين أية جاذبية. تشبه الصبية أمها حين تبدأ فجأة بالقول إن «السياسة لن تطعمكم خبزاً وتزوجكم وغيرها». كانت أمها على حق، تقول الآن. كان الشباب المجتمعون هنا يعتقدون بأن نشاطهم السياسي نضال سيغير العالم، يجعله مكاناً أفضل. اكتشفوا أنهم جعلوه مكاناً أفضل للمرشح عن المقعد الماروني في المتن الشمالي إدي أبي اللمع والمرشح المحتمل عن المقعد الأرثوذكسي في المتن الشمالي زياد عبس، لكن ليس لهم. ليس في هذه القوى السياسية من يمكن التعويل عليه، ولا حتى قيادي صغير في حزب كبير أو نائب أو وزير، يمكن أن يشعر المواطنون بأن ما يحصل حولهم سواء في ما يخص قانون الانتخاب أو غيره يعنيهم. يمر إسقاط اقتراح القانون الأرثوذكسي في الأوساط المسيحية بهدوء شعبي، كما سيمر التمديد أو التجديد وغيرهما. لا أحد يبالي. يمكن التيار الوطني الحر التعويل على رد فعل ما في صناديق الاقتراع، لكن فعلياً لن تترجم الدعوات الشوفية لحصار منزل النائب جورج عدوان لـ«تضحيته» بحق إحدى المجموعات الشوفية بتحسين تمثيلها النيابي، ولن يفاجأ موكب مرشح القوات اللبنانية في عكار وهبي قاطيشا بمتظاهرين غاضبين يقطعون عليه الطريق إلى منزله.
يرون هنا صباحاً بوضوح. لا يضيعون وقتهم بالصحف وأخبار المواقع الإخبارية والمقابلات السياسية. يعلمون أن هذا النائب وذاك وذلك يصولون في الكلام ويجولون قبل أن يرثوا على دائرة صغيرة يدورون حولها بتوتر، تختبئ فيها كراسيهم النيابية. كثر في المجلس النيابي مماثلون للنائب عدوان: ما عاد المواطنون يهرعون للتصور إلى جانبهم حين يلتقونهم في المجمعات التجارية، ولا يفسحون الطرقات بسهولة لمواكبهم، ولا يعيرونهم اهتمامهم حين يطلون تلفزيونياً. قلة قليلة تصدق أن تغيير قانون الانتخاب أو «إصلاحه» يمكن أن يؤثر على حياتها، أن يقدمها خطوة صغيرة إلى الأمام أو يدحرجها أكثر فأكثر إلى الخلف. لا يفتقد أولئك في المجلس النيابي الثقة الشعبية إنما الاهتمام؛ قلة قليلة تهتم بأقوالهم وأفعالهم: قلّلوا إطلالاتكم في غير البرامج الترفيهية.

السابق
هل ضاعت الفرصة؟
التالي
لماذا لم يمت تنظيم القاعدة