الخروج على الدولة

تلقى الرعايا اللبنانيون خلال الأيام، بل الأسابيع، بل على مدى الشهور، بل السنوات القليلة الماضية، مجموعة من الإهانات الجارحة وعمليات التحقير الممنهجة، ما يكفي لأن تذهب بكرامتهم، ليس فقط كشعب منكورة عليه وحدته، بل أساساً كبشر يفترض أن تشفع لهم شرعة حقوق الإنسان التي نتباهى بأن «لبنانياً كبيراً» ساهم في كتابتها.

على مدار الساعة عاملت الطبقة السياسية هؤلاء الرعايا بقدر من الاحتقار وامتهان حقوقهم في وطنهم، ومن ثم في دولتهم التي تتهاوى ذاهبة إلى الفراغ المدوي الذي لا يمكن احتماله… مع ذلك ظلت هذه الطبقة على اطمئنانها إلى أن رعاياها سيقبعون أمام الشاشات ووسائل التواصل الحديثة (!!) يتلقون سيلاً من الإهانات وفيضاً من أسباب التحقير يكاد يذهب بما تبقى من الكرامة الشخصية لكل منهم كما لمجموعهم، فضلاً عن حقوقهم في وطن له دولة بمؤسسات منها على سبيل المثال لا الحصر: مجلس نيابي (للتشريع) وحكومة (للإنجاز) وجيش للدفاع الوطني، فضلاً عن القضاء والأجهزة الأمنية، وكلها معطَّل ومعطِّل!

ولقد تمّ اختيار المجلس النيابي كميدان للعبث بأسس الدولة ونظامها «الديموقراطي»، وساحة للجدل فاضح الأمية والجهل بأبسط قواعد العمل السياسي، والاستقواء على الوطنية بأحط أنواع الثرثرة الطوائفية ـ المذهبية.

كان السفراء يتجوّلون في حدائق الجدل السياسي العبثي سعداء بالمساحة الإضافية التي أتاحها لهم النقاش القانوني بخلفية طائفية، والتنافس على خرق الدستور بذرائع مذهبية… بل أمكن لهؤلاء السفراء، ومعهم المبعوثون الذين جاءوا على جناح الطير للمساعدة، أن يستمتعوا بحوار الخلاف داخل مرجعيات الطائفة الواحدة حول العلاقة بين النص الدستوري مثلاً وحقوق هذا الجناح أو ذاك في ادّعاء تمثيل الأكثرية… ديموقراطياً!

ضجت برامج الشاشات، فضائية وأرضية، بالمهاترات وحفلات التشاتم والتحقير والتجني على الرعايا الممنوعين من مغادرة طوائفهم إلى الوطن، ومن التمرد على قياداتهم ولو من أجل وحدة الطائفة… أما الدولة فإلى جهنم وبئس المصير؟!

ماذا لو عاش هؤلاء الرعايا بلا مجلس نيابي، وبلا حكومة، وبلا جيش موحّد بقيادة مؤهلة، وبلا قضاء مهاب، وبلا أجهزة أمنية قادرة وقوية بوحدتها وبرصيدها المعنوي الذي يعصمها من الشبهات واتهامها في ولائها الوطني تمهيداً لإلحاقها ـ كما مؤسسات الدولة الأخرى ـ بمرجعيتها الطائفية أو المذهبية؟

يقول أهل الطبقة السياسية: لقد عاش هؤلاء الرعايا بلا دولة لسنوات عديدة، فماذا يجري لو تكررت تلك التجربة الفذة، مرة أخرى؟! اللبنانيون خلاّقون… ويمكن لكل «لبناني» أن يكون «دولة» بذاته… فكيف إذن بقياداتهم التاريخية، ومعظمهم له تجربته الدموية الحافلة في شق الدولة وشعبها، وإقامة «مؤسساته» الرديفة، وهي أنجح بما لا يقاس من المؤسسات الرسمية الجاهزة لأن تستسلم للأقوى أو الأغنى، لا سيما مع استخدام سحر التشطير، بحيث تكون لكل طائفة دولتها (أو أكثر من دولة) بجيشها وأمنها وماليتها وقضائها العادل، حكماً، نتيجة «استقلاله»؟!

لقد أكدت الطبقة السياسية طبيعتها التقسيمية، الفاسدة المفسدة، المتمردة على الدستور، الخارجة على القانون بمعظم «مرجعياتها» و«قياداتها التاريخية»، أن كلاً من أقطابها مستعد لأن يذبح الوحدة الوطنية من أجل مقعد نيابي إضافي (ولو في برلمان لا يجتمع إلا ليؤكد الانقسام) لهذه أو تلك من المرجعيات الطائفية المنقسمة على ذاتها.

البلاد في خطر. وحدة شعبها تكاد تندثر، ودولتها تكاد تصبح «رمزية»، فرئيسها ليس صاحب القرار، والحكومة العتيدة تنتظر «غودو» المشغول بأمور أخرى، والمجلس النيابي معطل بالانشقاق إلا.. حول التمديد! والجيش مهدد في قيادته بالتقاعد واستحالة التوافق على البدلاء!

أما الرعايا الذين يكونون مجموع الشعوب المختلفة في الكيان الذي يستعصي صموده على الزلازل والبراكين في ظل نظامه المصفح بالطوائف التي هي «دول» مستقلة أو على طريق الاستقلال، فمشغولون عن هذا العبث السياسي بالتجول في أربع رياح الأرض بحثاً عن الرزق، تاركين الطبقة السياسية ماضية في حروبها التي لا تنتهي من أجل تدمير هذا الوطن الصغير والجميل.

هل أجمل من أن تعيش بلا دولة يحكمها ويتحكّم فيها مثل هؤلاء الذين يرى كل منهم في نفسه أنه يغني عن الرعايا إلا في تأكيد أنه أهم من الوطن والدولة بكل مَن وما فيها؟!

السابق
لقد حسمها الأسد!
التالي
تداعيات خطرة لصراعات المسيحيين