مبدعو العراق والمصير الكالح؟

مع رحيل الفنان والموسيقار العراقي الشهير طالب القره غولي أو ما يمكن تسميته بليغ حمدي العراق, تطوى صفحة مهمة من صفحات الفن العراقي المعاصر الذي إزدهر في أواخر ستينيات القرن الماضي وتفجر إبداعا وحيوية وإنتاجا طيلة مرحلة السبعينات الإبداعية التي راكمت نشاطات ووجوه "فنية واعمالا" إبداعية مهمة تمثلت في إبداعات موسيقية فنية غمرت دنيا الشرق بأسره وشكلت وجها حضاريا للعراق كان من الممكن أن يشكل بدايات حقيقية لنهضة حضارية شاملة لولا الحروب الإقليمية والمصائب السياسية التي تهاطلت على البلد وحولته مصنعا لانتاج الخراب وللغريب من الأفكار الخرافية والعدمية بل تحول اليوم ليكون بؤرة طائفية متفجرة ومركزا من مراكز الأزمات والحروب الطائفية السوداء ومآلا ومستقرا لكل القوى السوداء التي تتربص بالعراق والأمة الشر المستطير.
يمثل الفنان الراحل بإبداعاته التي غطت مساحات الزمن الموسيقي الجميل في العراق بعطائه الثري وبقدرته الفذة على تطويع الألحان , وبقدرته الكبيرة على اكتشاف المواهب وتقديم أرقى الألحان والمشاركات التي تركت بصماتها في تاريخ الموسيقى والغناء ليس في العراق فقط بل في الشرق بأسره , لايوجد مطرب عراقي شهير ومتميز لم يمر من تحت يد الفنان الراحل , ولا توجد أغنية عراقية شهيرة لم يلحنها ذلك الراحل الكبير , ولا توجد قامة فنية عراقية قدمت للعراق كل هذا الزخم الهائل من الأعمال الموسيقية التي تسامت على كل المشكلات السياسية ودخلت عوالم الإبداع الإنساني الخالدة المتسامية على الصراعات والأزمات المفتعلة.
لقد برز طالب القره غولي بأعماله العاطفية الجميلة التي رددتها خيرة مطربي العراق وفنانيه من أمثال ياس خضر وسعدون جابر وفاضل عواد وأنوار عبد الوهاب وأمل خضير , كما برز بشدة وتميز خلال مرحلة الحرب العراقية ¯ الإيرانية الطويلة والدموية المكلفة (1980/1988)والتي لم يعتبرها الراحل الكبير مرحلة يريد نسيانها نظرا الى ارتباطها بعهد الرئيس العراقي السابق والراحل صدام حسين! بل تفاخر بها واعتبرها جزءا فاعلا ورئيسيا من تاريخه الفني والإبداعي وكان شجاعا في هذا الموقف الذي له ثمنه الغالي في العراق اليوم , في "القادسية" وأناشيدها قدم طالب القره غولي أبرز إبداعاته النغمية الخالدة إبتداء من أول نشيد "يا سعد يا جدنا" الذي كان الإيقونة الموسيقية لتلكم الحرب , وبرز في تقديم ألحانه للفنانين العرب الذين تهاطلوا على العراق وقتذاك مثل سوزان عطية وسميرة سعيد وغيرهما الكثير, وكان من الممكن جدا لوكان في العراق حالة استقرار وسلم أهلي وتوافق سياسي وتنمية هادئة أن يبرز الفنان الراحل على المستوى القومي لولا الظروف السابقة ومن ثم دخول العراق بأسره مرحلة الحصار الدولي القاسية التي أتبعت غزو الكويت عام 1990 والتي هشمت العراق بالكامل وأعادته للخلف لألف عام ويزيد واستنزفت إمكانياته وأطاحت بمثقفيه ومبدعيه بالتعاون مع الديكتاتورية والإستبداد, ورسخت كل أسس ومعاني التخلف الحالي الفظيع , ورغم أن الفنان العراقي إذا أراد العيش في العراق فعليه مجاراة السلطة والتغني في بلاطها لتجنب غضبتها, والعيش في رحابها والتمتع بامتيازاتها إلا أن الفنان العراقي وجد نفسه في حالتي المعارضة والولاء بالحالة المزرية نفسها , فالمصير البائس والنهاية المؤلمة هي الملاذ والمحط الأخير لبلاد لا يمكن أن تقدم سوى العذاب والدموع والآلام مثل العراق, وجميعنا يتذكر مأساة الفنان العراقي البصري "فؤاد سالم "الذي كان يعاني من دزينة امراض وعلل والتي أصابته بالشلل في الشام ولا أدري أين هو الآن ? وكان فنانا معارضا بصلابة للنظام العراقي السابق وهو ما كلفه الكثير الكثير من انعدام الراحة والاستقرار والضمان الصحي والمعيشي وكسب إحترام الشعب العراقي من دون شك , أما الفنان الراحل طالب القره غولي فرغم عمله الطويل في دروب السلطة السابقة وتبوأه لمنصب موسيقي متقدم في العراق إلا أن ذلك لم يشفع له ليكون مرتاحا ومطمئنا للمستقبل بل تشرد في شيخوخته في الشام ردحا من الزمن بعد الاحتلال خشية من عمليات القتل والإنتقام التي قامت بها الميليشيات الطائفية والإيرانية حتى بلغ به الوهن قمته ليعود للناصرية التي نطلق منها بذلك "الريل" "القطار" ليموت فيها عليلا وحزينا ويختتم مرحلة عطاء وإبداع طويلة إمتدت لأكثر من نصف قرن طبع خلالها الغناء والموسيقى في العراق بطابعه الجميل والسهل الممتنع الذي لا ينسى أبدا وسيظل خالدا في سجل وسفر الخالدين , فيا أيها الراحل الكبير وداعتك ذاك أنت غالي .. وإعزاز وحق الله إعزاز.. وبالقادسية شهودنا… وجذاب دولبني الوكت بمحبتك جذاب".
ويبدو أن مصير المبدعين في العراق مرتبط بمصير العراق البائس ذاته , فشاعر الإنسانية الكبير بدر شاكر السياب مات عام 1964 في الكويت وهو يجر حسرته على "العراق البعيد المختزن بالبروق والرعود", كما أن الموت طوى صفحات فنانين كبار عانقوه في غربتهم وتشردهم مثل الراحل الملحن كمال السيد وغيره كثير , واليوم يأتي الدور على الراحل الكبير طالب القره غولي ليغمض عيونه ويطوي إبداعاته والعراق الذي غناه وتغنى به يعيش في أسوأ أحواله الحضارية والسياسية… فرحم الله فنان الشعب الراحل الكبير , وسيظل التاريخ هو الحكم الأول والأخير.  

السابق
شفافية البطيخ!
التالي
علي حرب: نطالب بالضمان الاجتماعي للعمال