حوار مع الشيوعيين الأخيرين

 هناك كتاب ومثقفون يقفون ضد ما تسمى بـ«الربيع العربي» لن نتعجل اتهامهم، لن نقول فيهم انهم محافظون أو رجعيون أو قانعون ذلك اننا إذا اخترنا ثلاثة من هؤلاء سيدهشنا انهم سبقونا إلى تهم كهذه، رمونا بها قبل ان نبادر إليها، نحن إذاً الرجعيون المحافظون القانعون فهؤلاء الثلاثة يعتبرون أنفسهم شيوعيين وأمناء للثورة كما صاغها الشيوعيون، انهم الشيوعيون الأخيرون في هذا العالم، الحراس الأخيرون للثورة والساهرون الأخيرون عليهم، انهم الأمناء للثورة بينما نحن المرتدون والخونة، لن نتراشق مع هؤلاء التهم، لقد علمونا هم بسبقهم لنا هراء هذه التهم وعبثها.


إذا كنت ضيقا بتسمية الربيع العربي فأنا ضيق أيضاً بتسمية ما حدث إبانه «ثورات»، فنحن لا نمتدح شيئاً بتسميته ثورة، والثورات كما علمنا وعاينا كانت في الغالب حروباً أهلية وأزمنة جنونية وفوضى عارمة وتدهوراً للمؤسسات وللدولة والمجتمع وعسفاً لا محدوداً وعنفاً أعمى، فليس من المديح أن نسمي أمراً ما ثورة. لكن ما يجري اليوم لا يخرج عن رسم الثورة، ما يجري في أكثر من مكان حروب أهلية وزمن مجنون وفوضى وتقويض وعنف أعمى، وعلى هذه فإن ما يجري لا يخرج عن الثورة. بمقدار ما تحبل الثورة بالدمار والانتهاك والرعب يحق لنا أن نسمي ما يحدث ثورة وأن لا نباري أحداً على هذا الاسم، فجل ما نتمناه ان تهدأ هذه الثورة وان يخف أوارها. جل ما نتمناه ان لا نصل في بعض الأقطار إلى الثورة، ان يقف الأمر في مصر وتونس عند هذا الحد، وان ينحسر المد المرعب في ليبيا، جل ما نتمناه ان تنحسر الثورات أو ان لا نصل إليها أصلاً.

لن يكون جدالنا مع الشيوعيين الأخيرين إذاً مباراة على الاسم، لهم أن يدعوا لأنفسهم ما شاؤوا فلن ننافسهم على ذلك. قد يكون الزمان الذهبي للثورات بالنسبة لهم هو الزمان الستاليني، إعدامات ونفي إلى سيبيريا واعتقالات وتعذيب وإهانات بالملايين بل بعشرات الملايين، إذا كان الحنين هو إلى هذا الزمن فنحن هكذا نخلي بينهم وبين حنينهم. نترك لهم أحلامهم ومخيلاتهم الثورية. ما حدث الآن يتدهور، للأسف، إلى أن يصير ثورة، وإذا كانوا حالمين بالثورات فما هي الثورات ان لم تكن ما يحدث الآن.

ثمة شقاق آخر بين هؤلاء و«الثورات» العربية، هو ان هذه الثورات حملت إلى السلطة في أكثر من مكان إسلامويين حرفيين محافظين، لا نخطئ إذا قلنا انهم يمين وانهم فاشيون. بل ان فروعاً للقاعدة قد تسربت إلى الساحة وهذا بطبيعة الحال مخيف ولا ندري إلى أين يقودنا، وأنى تكون نهايته إن كانت له نهاية.

قد لا يكون الشيوعيون الأخيرون ضد العنف إذا وافقهم صاحبه، بل قد لا يكون العنف قضية عندهم، المهم هو العنيف وافقنا أو لم يوافقنا. لن يكون العسف ولا القمع مدانا بحد ذاته، إلا ان يكون عسف الخصم السياسي وقمعه. في هذه الحال لا فائدة من ان نحتج بعنف الأنظمة العربية، وعسفها، هذه الأنظمة التي ربضت على صدور الشعوب نصف قرن أو أكثر كانت، كما تواتر اسمها، تقدمية. ألم تقم بالإصلاح الزراعي، ألم تؤمم الشركات الكبرى، ألم تبادر إلى التصنيع وأهم ذلك كله ألم تبن الاشتراكية، ألم تناد بالوحدة العربية بل قامت أحياناً بتحقيقها. أهم من ذلك كله ألم تعاد الغرب وتتجه إلى المعسكر السوفياتي. هذه بالطبع عناوين، إذا جمعتها بعضها الى بعض وصلت إلى البرنامج التقدمي الثوري، أما العسف، أما القمع ضد أعداء الشعب وأذناب الامبرايالية، فمم يشكو وما ذنبه وما هو سوءه، ألا يحمي الشعب وإنجازات الاشتراكية، ألا يحمي العمال والفلاحين، ألا يطهر الأمة والبلد من الأذناب والدساسين والعملاء. العسف في هذه الحال هو التقدم بعينه، هو قرين التقدم وتوأمه. لا يقوى التقدم إلا به ولا تتم الإنجازات إلا بحمايته، العسف والعنف ثوريان في الأساس في نظر هؤلاء، لا تقوم الثورة الا بهما ولا تقوم دولتها إلا عليهما، ولا نستطيع في رؤية كهذه أن نتخيل ثورة بلا سلاح ولا حكماً ثوريا مسالما. وإذا كان العسكريون قد تولوا السلطة فلأنهم أبناء الفلاحين وأبناء العمال ولن يخونوا أصولهم ومنابتهم. وحدهم يقيمون الحكم الوطني ووحدهم يبنون الدولة التقدمية، أما هذا الكلام البورجوازي عن الحرية فهو محض هراء، وهو بدون شك تشدّق بورجوازي فالحرية والديموقراطية لا يستقيمان مع حكم الجماهير.

حجج كهذه لا تجد وجاهتها في الماضي الذي لن تكون ثورة كهذه بالنسبة له سوى حطام تاريخي، لقد انتهت الاشتراكية السوفياتية وتحولت الطغم العسكرية إلى ملك عائلي ووراثي وتخصخصت المؤسسات المسماة اشتراكية وصارت في أيدي الطبقة الجديدة التي تكونت مما حول الضباط ومما استلحقوه من البورجوازية القديمة. هذه الطبقة حولت البلاد مشاعاً لها وبالطبع فإن الطبقات المسحوقة صارت أكثر فقراً ولم يبق من الثورة المزعومة الا عنف يتفاقم ويزداد عسفاً وسوى اغتصاب غير مشروع للدولة والاملاك العامة، ان انفجار هذه الأوضاع هو ثمرة كبت وخنق أنفاس استمر عقوداً متتالية، هذا الكبت هو الذي جعل الطبقات العامية تتوق إلى الحرية وجعل هذا الانفجار الشعبي ممكناً.

الحرب الأهلية وصعود الإسلامويين وحرمان المرأة من مكتسباتها ليست أموراً نافلة ولا مهملة لكن من أسس لهذا هو حكم الطغم العسكرية الذي جعل هذا الانفجار ممكنا بل لازماً، ومع الانفجار أخرج المجتمع كل أحشائه وكل دواخله، كان الدين غالباً هو الحامل الوحيد لكل هذه التراكمات وكان الإسلاميون وحدهم في الواجهة فكان ما كان، ولا بد ان يكون ليبدو الإسلامويون أكثر عجزاً من ان يحملوا هذه التراكمات وان يصوغوها في رؤية واحدة، فهم كانوا من هذه التراكمات وكانوا بدون شك عمياناً عن نسقها ووعيها، لقد بدوا فجأة من زمن آخر، هذا بحد ذاته سيجعل الجمهور العامي أكثر وعيا بزمنه وبراهنه وسيخرج الإسلامويين سريعاً من الحلقة ويبعدهم إلى حيث كانوا خارج الساحة وخارج التاريخ.

 

السابق
بري: آخر مهلة للتمديد التقني هي 31 أيار
التالي
الاوضاع الداخلية دخلت بين فكي كماشة سعودية – ايرانية