13 تشرين الثاني: العدوان الأخير

لم يكن أي من آل الجميل ولا جورج عدوان مشاركاً في مذبحة 13 تشرين الأول سنة 1990. كانت عائلة رئيس الجمهورية السابق منفية بكل أفرادها خارج لبنان، وبأمر واقع وموقع. وكان عدوان، رئيس حزب التنظيم والأمين العام للقوات اللبنانية يومها، في حركة مكوكية بين غدراس وبعبدا، في محاولة لمنع وقوع الكارثة. حتى اكتشف ذات صباح أن مساعيه السلمية ليست غير وسيلة تمويه عسكرية، الهدف منها مباغتة توقيت الهجوم على أحد محاور القليعات. فأقفل خط الهاتف في وجه سمير جعجع. ولم يفتحه إلا بعد خمسة عشر عاماً، تخللها وفاء من عدوان الرفيق والصديق، لشريك الطائف الذي تحول سجينه الأوحد، في تلك الزنزانة الظالمة جداً جداً جداً…
لا الجميل ولا عدوان لوثا أيديهما في دماء 13 تشرين. لا في الدماء البشرية، ولا في الدماء السيادية، ولا الدماء الميثاقية والكيانية. لا بل كان صوتاهما مسموعين في رفض المجزرة، منذ أساسها، أي كارثة اتفاق الطائف، وحتى نتائجها، أي سقوط الوطن ونفي عون واعتقال جعجع نفسه.
ومرت الأيام. عقدان وثلاثة أعوام، كل يوم منها درس وتجربة وأمثولة وعبرة وخلاصة… كلها لم تنفع لعدم تكرار الخطأ، وعدم ارتكاب الخطيئة مرة ثانية. كلها لم تحل دون وضع البلد وميثاقيته وصيغته وتوازنه وحياته وسيادته وكيانيته، أمام لحظة 13 تشرين «الثاني» في أيار 2013. تكرار دقيق تفصيلي شبه حرفي: ميشال عون عرضة للذبح، وحيداً. وهج السلطة ووهمها هما الثمن المعروض لقاء رأسه. تحالف عوكر ـــ عنجر يومها، صار تلاحم عوكر ـــ بندر اليوم. كثيرون يرددون أن قلوبهم معه وسيوفهم عليه، كما من قبل. فارق واحد، بسيط مختلف هذه المرة، أن جورج عدوان يبرر المذبحة الثانية، مع أن الثانية قد تكون الأخيرة. إذ لا يمكن لشعب أن يعطى في خلال جيل واحد أكثر من فرصتين لتصحيح أخطائه وخطاياه. ليس المطلوب «الأرثوذكسي». ولا الهدف مقاعد المسيحيين الفاقدين حتى مقومات الوجود والدور والمبادرة والريادة ربما. ولا الغاية تلك اللوحات الزرقاء على مركبات أكثرية من التافهين أو الطامحين أو المرتضين معاملة الأقنان أو سوق العبيد. كل المطلوب كان قراءة المشهد بشموليته. كل المرجو كان طرح إشكالية مأزق وطن كامل في أسئلة من نوع: هل يمكن في كل المدى المنظور، أن تتكرر لحظة التوافق المسيحي التي تجسدت في بكركي، وأن تجمع مجدداً سمير جعجع مع سليمان فرنجية وميشال عون مع أمين الجميل؟ طبعاً لا. وهل يمكن في كل السنوات المقبلة، أن ترى مجدداً أكثر من نصف المسلمين، وعلى رأسهم من هزم إسرائيل لأول مرة في تاريخ العرب والمسلمين والفلسطينيين، يؤيدون ما يؤيده المسيحيون ويريدون ما يريدونه؟ قطعاً لا. وهل يمكن في كل الزمن الآتي، أن تعيش لحظة إقليمية ودولية، حيث لا عاصمة مجاورة تملي علينا، ولا سيطرة دولية تفرض مشيئتنا، بل فوضى وإرباك إقليميان ودوليان ينسجان لك فرصة غير مسبوقة ليكون قرارك لبنانياً صرفاً وسلطتك سيادية حقةً؟ بالتأكيد لا…
إذاً، لماذا ذبحتم ميشال عون؟ لماذا حززتم سكين الغدر في دعوته الميثاقية الأخيرة؟ لماذا غرزتم خنجر الخيانة والخذلان والتخلي في سانحة كيانية تدركون أنها لن تتكرر؟ ألم تكف عبرة 13 تشرين الأول وأمثولته؟ ماذا بقي من «شركاء الطائف» لحظة أسقطوا عون، غير فتات وزير الدولة المدفوع بل «المركول» إلى الاستقالة عند أول حكومة بعد إنجاز المذبحة؟ ماذا بقي لهم بعد نفي عون غير المعتقلات والزنازين و«ضربة الجلاد» التي يبدو أنها لم تعلم؟ ماذا صمد من «بيعة» السيادة والدستور والميثاق إلى حافظ الأسد شخصياً، ليل 19 آب 1990، كما روى ويروي محسن دلول صادقاً شاهداً؟ ومن قال إن «بيعة» بندر اليوم ستكون أبقى وأوفى؟ حتى في الشكل، لم يتعبوا أنفسهم ليحفظوا حق الطوائف الأقليات في المقاعد الستة التي أقرّتها اللجان. لا لزوم لهم. لا لزوم لأحد. لأن براءة السلطة قد صدرت من ابن سلطان، بعدها ومعه لا حاجة لأقلية ولا لأكثرية. حتى حسابات التمثيل لم يتعبوا أنفسهم لدراستها. حتى عقدة المسيحيين الجنبلاطية، لم يتكبدوا أي عناء لتخطيها أو معالجتها أو اختراع تبرير لتمرير «خازوقها» لدى ناسهم وشارعهم وبيئتهم و«شعبهم» و«مجتمعهم» الفوق كل اعتبار. وهي العقدة المؤسسة لشرعية جعجع وعدوان نفسيهما. الأول الآتي إلى المدى المسيحي من حرب الجبل، والثاني المرافق له في الحيز نفسه، من «مكتب الجبل» إلى بيت كميل شمعون في الدير، وصولاً إلى حلم وراثة المقعد والزعامة قبل حجارة البيت ومعها وبعدها. ماذا تقولون لابن الشوف وعاليه إذا سألكم عن تقسيمات منطقته؟ ماذا ستقولون لأبناء بعبدا والمتن وكسروان وجبيل إذا سألوكم عن تنازلكم المذل، لمن وصفكم بأبناء الجنس العاطل؟
لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين؟ ربما لذلك أصبح التكفيريون حلفاء البعض..

السابق
فلسطين.. لا أملَ إلا بالمقاومة
التالي
درس ساحة النجمة وأبعاده