يوميّات مقاتل… من بيروت الى القصير

وقف في بلدة حاروف الجنوبيّة بين المشيّعين يودّع رفيق السلاح الى مثواه الاخير… هناك حيث ضاقت القرية بالوافدين وبالعيون الشاخصة الى المستقبل الغامض من خلف الحدود، هؤلاء الذين لم ترحمهم أحكام التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا، فبعدما زفّوا آلاف القوافل من شهداء الجبهة التي كسرت أعتى جيش في العالم، ها هم يسيرون تحت خيوط الشمس الهاربة خلف اقليم التفاح وجبل عامل لتعانق شاطئ صور وبنت جبيل، وفوق راحاتهم هامات قد سقطت في مكانٍ آخر هذه المرة، وفي معركة أقلّ ما يصفوها في جلساتهم الخاصة "بالكربلائيّة".
وسط هذه العيون، كان يقف هذا الشاب العائد حديثاً من جبهة القصير في سوريا، وفي البال ألف قصّة وقصّة، ولو لم ترحمه العناية الالهيّة لكان الآن شهيداً في عداد من رحلوا.
لم يكن في طباعه المعهودة وهو يرثي رفيقه الجنوبي، لكنّه بدا هادئاً وغير متشنج، إلا أنّ نظراته كانت أكثر حدّة وفي صوته نبرة تعلو غير آبهة أحياناً بطاولات ذاك المقهى البحري، حيث التقينا به ذات مساء في بيروت بحثاً عن يوميّات شباب لبنانيّين تحوّلوا فجأة الى مقاتلين خارج الحدود.
فمن بيروت الى القصير يصعب تحديد الطريق ومحطاته، وكل ما يعرفوه أنّهم قد وصلوا الى الجبهة، التي لا تعرف هدنة كما يقول، فالمعارك عنيفة جدّاً لا تهدأ، ومقاتلو المعارضة السوريّة ليسوا في نزهة فهم أيضاً من المقاتلين الشرسين، الذين تدفعهم عقيدة دينيّة ماكنة تثبتهم في المعركة، في ظلّ وجود أعداد كبيرة جدّاً من المقاتلين العرب والاجانب ولا سيما الافغان. إلا أنّ واقع المنطقة الميداني بات محسوماً للنظام السوري وحزب الله، في ظلّ الحصار الذي فُرض على المنطقة، من مختلف الجهات في حين أنّ حزب الله يسيطر على خطّ الدفاع الاول لجهة لبنان والجيش السوري سيطر على خط الدفاع الثاني وقطع الطريق باتجاه ريف دمشق، إضافةً الى سيطرته على خطّ عرسال ووادي خالد، وبهذه الحالة بقي للجيش السوري الحر منفذ وحيد لجهة الشمال. وأما طابع القتال فبدأ يأخذ منحاً شرساً جدّاً لدرجة أنّه لا يخرج من أرض المعركة جريحاً فإما قاتلاً أو مقتولاً. وأما استشهاد نائب قائد وحدة "الرضوان" قبل أيام، الوحدة التي أسّسها الشهيد عماد مغنية، فقد زاد من اشتعال الجبهة، خصوصاً أنّ هذه الوحدة هي من أهم الوحدات التي تخوض المعركة في القصير، في حين ينتشر لواء أبو الفضل في محيط مقام السيّدة زينب.
أما وحدات حزب الله المشاركة في القتال، فرأس حربة في مختلف الاشتباكات المتقدّمة والاقتحامات والتعامل في النقاط الحسّاسة والمناطق التي تنشط فيها عمليّات القنص، في حين يقتصر في كثير من الاحيان دور الجيش السوري على الانتشار والتمركز في المناطق الساقطة عسكريّاً، في حين تُستخدم مختلف أنواع الاسلحة الخفيفة والمتوسّطة والصاروخيّة في القتال.
ولا يبدو الميدان بعيداً عن أهداف القيادة، فالمقاتلون في صفوف الحزب هناك يدركون أنّ أهداف وجودهم في المعركة ثلاثة: حماية مقام السيّدة زينب، معركة استباقيّة على الأراضي السوريّة قبل انتقالها الى عقر دار الحزب ومنع سقوط النظام السوري، وهذا خط أحمر. فالمعركة في القصير ستكون الركيزة التي منها سيتمكن النظام من حماية منطقة الساحل، وبالتالي فإنّ ابقاء التواصل عبر الحدود اللبنانيّة مع المقاومة الاسلاميّة أمر ضروري، والمعركة لن تنتهي هناك إنما ستنتقل إذا دعت الحاجة على طول الخط الساحلي شمالاً، الامر الذي سيوفر خلفيّة صلبة للنظام خصوصاً بعدما يكون قد حصر معظم المقاتلين في صفوف الجيش الحر في القصير التي حوّلها الى المعركة الأم، تماماً كما فعل في باب عمرو في حمص وفي حلب. إلا أنّ الجديد في هذه المعركة أنّ الحسم فيها انعكس دوليّاً وأولى نتائجه تبرز في لقاء بوتين – أوباما في الشهر المقبل…
لم تنتهِ المعركة، لكنّ طريق العودة أرجعته مصاباً إصابةً طفيفة نُقل على أثرها الى لبنان، حيث كان الموقف الأصعب أمام والديه، فما بالهم يعاتبوه أو يباركوه أم يرجموه…
اشتدّ الريح قليلاً وارتفع موج بيروت ليضرب صواري ذاك الميناء القريب، وكأنّ به كان يصغي علّه يتنشق بعضاً من ياسمين دمشق لا بارود القصير… وخلف دخان نرجيلته المبعثر، كانت عيناه لا تزالان مسمّرتان، متمتماً بعض كلمات تبقى ملكاً لذاكرة من نسيان…

السابق
غول: رد الفعل العالمي على أزمة سوريا يقتصر على الأقوال
التالي
زهرا: عون وادوات صغيرة يحاولون مجددا الغاء القوات