المحاكمة بين عهدين متكاملين؟

تداهمك عشرات الأسئلة وأنت تتابع مشاهد محاكمــة الرئيــس المصـري السابــق حسني مــبارك، مــع نجليه علاء وجمال، وكبــار معاونيـه، وبالـذات منهم وزير داخليته حبيب العادلي، فضلاً عن كبار المفيدين من عهده نفوذاً وثراءً واستيلاءً على أملاك الدولة.

بين تلك الأسئلة التي تظلل المشهد: مَن يحاكم مَن؟ من المدعي، فعلاً، ومن هو المتهم؟ وما هي وجوه الاختلاف والتشابه بين نظام الطغيان الذي أسقطه «الميدان»، وبين نظام «الإخوان» الذي يتبدى عبر المحاكمة، وكأنه يحتضن «سلفه»، ويحاول مجاملة الرئيس المخلوع حتى ليكاد يعتذر منه؟ّ

وبغض النظر عن طبيعة سير المحاكمات، بمرافعات الدفاع المعززة بجماهير مؤيدي الرئيس المخلوع، وارتباك القضاة وتقصير النيابة العامة، وحسرات أهالي الضحايا في «الميدان» ومن حوله، فإن التدقيق في كل تلك الوقائع يجعلها أقرب إلى إخراج مسرحي ناجح لعملية «تحالف واقعي» بين عهد الطغيان ووريثه عهد «الإخوان»!

أما إذا وسعت دائرة النظر من حول مسرح المحاكمة فلسوف تكتشف أن أدلة الإثبات قد أتلفت أو أخفيت، وأن المناخ المحيط بالمحكمة يرهب القضاة، وأن معاملة المتهمين بالجرائم التي رافقت سقوط حكم الطغيان قد «زادت في الرقة حتى انفلقت».

كذلك فإنك سوف تكتشف أشباح دول، عربية وأجنبية كثيرة، تتحرك من حول المحكمة وداخلها… ذلك أن أكثر من نظام عربي يرى نفسه جنباً إلى جنب مع حسني مبارك وأركان عهده، إما بصفة «صديق» أو «شريك» في «الأعمال» التي بات عنوانها سياسياً في الغالب. وبالتالي فهو ينظر إلى محاكمة الفرعون على أنها محاكمة لكل «الفراعين»، لا سيما من كانوا يرون أنفسهم «أصدقاء»، وبعضهم يفترضون أنهم «شركاء»، وقد حاولوا سحب أياديهم في اللحظة الأخيرة، ثم لما انتبهوا إلى هوية «الوريث» تأكدوا انه ما زال بوسعهم أن يكونوا شركاء مع «ورثة الطغيان»… الصديق.

ما بين المحاكمة الأولى للرئيس المخلوع والمحاكمة الثانية انتقل «العهد الجديد» من موقع «النائب العام» الشرس الذي يفترض انه يحاكم عهداً من الفساد واستغلال السلطة واضطهاد الشعب وصولاً إلى حد القتل، إلى موقع اقرب إلى «الشاهد الأخرس» وقد نسي أو انسي جوهر «القضية»: غيبت الجرائم السياسية الخطيرة، وتم تقزيم قضايا الفساد الكبرى.

ومع التنويه باحترام المحكمة لموقع الرئيس المخلوع، إلا أن هذا الاحتــرام إنما تم عـلى حساب الحـق والحقيـقة والأسباب الفعلية لاضطراره إلى «التنحي». فالرئيس السابق لم يتنح طوعاً، وإنما بالأمر… الأميركي، كما هو معروف، وكحركة التفاف على «الميدان» حتى يسكر بتنحي الطاغية وينسى أو يهمل محاسبة عهده جميعاً، وعلى سياساته التي أدت إلى تهاوي مكانة مصر عربياً بل وفي العالم، كله، وبعد ذلك يمكن فتح ملفات الفساد وتبنيها بدءاً من الصفقات المشبوهة لبيع الغاز والكهرباء إلى إسرائيل بأقل من أسعار التكلفة، وصولاً إلى النهب المنظم للمال العام عبر صفقات «منح» الأراضي الأميرية للقطط السمان التي كان ربّى بعضها نظام أنور السادات ثم زادها عدداً وثروة نظام مبارك.

لقد حكم حسني مبارك مصر ثلاثين سنة طويلة. ومع التنويه بأنه لم يلجأ إلى العنف المباشر في مواجهة الجماهير إلا في الأسابيع الأخيرة، إلا أن ثمة ما هو اخطر إذا كان المراد المحاسبة عن الثلاثين سنة من الحكم المطلق: فقد فقدت مصر قيمتها ودورها على المستوى العربي، وصارت مجرد ملحق بالسياسة الأميركية، بل وتجرأت عليها إمارات ومشيخات ودول ما كان لها أن تتطاول لو أن الحكم في مصر كان جديراً بحفظ كرامة مصر.

إن الخطأ السياسي أفدح ضرراً بما لا يقاس. ورئيس الدولة ليس شرطياً أساء استخدام سلاحه ضد مواطن، ولكنه ارتكب ما ذهب بقيمة البلاد.

وما ينطبق على حسني مبارك في مصر ينطبق على نظرائه في البلاد العربية التي انتفضت شعوبها فأطاحت بهم او هي ما تزال تحاول. لقد كانوا مجموعة من الدكتاتوريين الطغاة الجهلة، والمنفردين بالقرار. وهكذا فإنهم أساءوا إلى كرامة الشعب ثم أنهم دمروا قدرات الوطن وضربوا الاقتصاد الوطني وخربوا التعليم الرسمي تاركين الأجيال الجديدة تحت رحمة المدرسة الخاصة والجامعة الخاصة والمدرس الخصوصي والبرامج الموضوعة لبلاد أخرى تعيش ظروفاً مختلفة تماماً عن ظروف بلادهم.

إن أنظمة الطغيان قد ضربت ركائز الحياة السياسية، فعطلت إرادة الناس، ثم فرضت عليهم إلغاء شخصياتهم وهويتهم الوطنية. صارت الانتخابات مزورة، بل ومهينة، إلى حد انه في أحيان كثيرة لم يكن الاستفتاء بحاجة إلى مستفتين، فالنتيجـة مقــررة سلفــاً، سـواء شـارك خمـسة في المئة أو عشرة، إذ سيعلن أن 95 في المئــة على الأقل قد قالوا: نعم!

لا يعني هذا الكلام المطالبة بإنزال عقوبـة الحـد الأقصــى بالطغاة، بل يعني أساساً ضرورة المحاكمة الجدية والشاملة عن تخريب المجتمعات، وضرب الشعور الوطني، وامتهان كرامة المواطن… فضلاً عن تقريب التافهين والمرتشين والفاسدين، وعن «منح» من لا يستحق ما لا يجوز أن تتخلى عنه الدولة من حقوقها.

في مصر، كما في العديد من الأقطار العربية، تسببت عهود الطغيان بتخريب مستقبل الأمة وليس حاضرها فحسب: انهار مستوى التعليم من الابتدائي إلى الجامعة، نهبت خيرات البلاد بمراسيـم جمـهورية، حرم المواطن من كرامته، وأذل أمام المؤسسات التي بنيت بأمواله (الجامعات، المستشفيات، الإدارات الحكومية، التموين، الكهرباء والمرافق)… ودفعت الكفاءات وأصحاب المستويات العلمية إلى الرحيل فهاجروا إلى حيث يبيعون علمهم ويعيشون بكرامة، في حين أن بلادهم أولى بهم، خصوصاً أنها بحاجة إليهم.

لقد أذل كل طاغية عشرات الملايين من رعيته. وكان يرى انه يكبر بقدر ما يفرض الصغر على شعبه، لأنه ليس مؤهلاً لأن ينجز ما يجعله كبيراً فعلاً.

وها هم العرب في مختلف ديارهم، سواء تلك الغنية بمواردها من الذهب الأسود أو الأبيض، أو تلك الفقيرة أرضها وإن كانت غنية بكفاءات أهلها، يعيشون خارج الزمن، تهيمن على قرار دولهم – الغنية قبل الفقيرة – الإرادة الأجنبية، ويذلهم الإرهاب الإسرائيلي فيفرض عليهم شروط أمنه وتعاظم اقتصاده وزيادة أعداد المستوطنين وشروط زيادة الموارد الطبيعية على حساب حقوق أصحاب الأرض في أرضهم، ويصادر قضيتهم المقدسة فلسطين ويجتاح ما تبقى للفلسطينيين من أرضهم بالمستوطنات وفيها بجيوش المستقبل… وكل ذلك خطر في نتائجه العملية على المصريين كما على الليبيين والتوانسة، كما هو خطر على سوريا التي تسبب تعسف نظامها ورفضه المبادرة إلى مواجهة مسؤولياته الوطنية بالحرص على البلاد وشعبها، وفتح أبوابها أمام أشتات الإرهابيين الوافدين من مختلف أرجاء العالم الإسلامي وقد جاءوا بزعم هداية أهل الإسلام إلى الدين الحنيف الذي لا يعرفون أن يقرأوا نصه المقدس، فكيف بأن يفهموه.

وبالعودة إلى الصور المحزنة لمجريات محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك يمكن القول براحة ضمير: إن العهد الإخواني «يحاكم» سلفه من موقع «الحليف». لكأنه يخاف أن يحاسبه، حقيقة، على إنجازاته الثقيلة التي اضطرته في نهاية الأمر إلى «التنحي»… بالأمر الخارجي، قبل أن يكون قراره هذا خضوعاً لإرادة شعبه.

لقد تبدى الفارق واضحاً بين جولتي المحاكمة، حتى في الشكل، وإن ظل جوهر المحاكمة غائباً في الحالين: من نائم على سرير، يؤتى به في سيارة إسعاف ويعاد إلى المستشفى في طائرة خاصة، إلى الجالس باعتداد على كرسيه وقد طرأ تغيير جوهري على مبدأ المحاكمة: هل هي على تفاصيل في ممارسة السلطة أدت إلى بعض الضرر ويمكن أن يُكتفى ـ لتأديبه ـ بالفـترة التــي قضاهــا في السجــن، أم هي أخــطر من ذلك بكثـير، ولكن فتــح البـاب لمحاكمة حقيقـية سيدخــل إلى المحكمة «القضايا الأصلية»… وعندها قد يخسر العهد ألإخواني «جماهير» الرئيس السابق، وقوى النفوذ التي ساندته حتى اليوم الأخير ووضعت حداً لسقف محاكمته حتى لا يصيب عواصم القرار العالمية، ومن ضمنها إسرائيل، فضلاً عن أصدقائه العرب؟

هل اشترى عهد «الإخوان» تركة حسني مبارك، ليحصلوا على شهادة حسن سلوك ممن سانده في حكم مصر لثلاثين سنة طويلة… في حين كشفت الأيام انه لم يكن مؤهلاً لأن يشغل مثل هذا المنصب الخطير؟

هل الحكم على حسني مبارك سيسجل رصيداً إضافياً في حساب الرئيس مرسي.. أم انه سيؤكد وجوه التشابه بين الحكم الفردي وحكم الحزب الواحد الذي لا يقبل غيره شريكاً؟

إن هذه المحاكمة مدخل شرعي إلى تجديد الثورة حتى لا يذهب الميدان ضحية عهد جديد قد يكون أقسى من سابقه الديكتاتوري…

لقد تحولت هذه المحاكمة المسيئة إلى روح العدالة، إلى محاكمة للشعب وثورته المجيدة.

السابق
سوريا.. إذن هي كذلك!
التالي
أوباما لن يضرب إيران عسكرياً!