اللبنانيون يهلوسون… ويتساءلون


لا تكاد تنضج طبخة سياسية، منذ ثماني سنوات، حتى تحترق. لكن الطباخين الستة أو السبعة الذين اعتادوا ملء كروش نوابهم وأحزابهم وإعلامهم ورأيهم العام، يستعيضون عن «الطبيخ»، منذ أشهر، بحبوب هلوسة تعوّض الأنصار خواء الأفكار

لا أحد يعرف شيئاً عمّا سيحصل. ليس «بُكرا»، بل الآن. لا أحد يعرف ما هو حاصل الآن. لا حزب الله يعرف ما يدور في رأس حزب الله، ولا تيار المستقبل وحركة أمل والقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر يعرفون ما يدور حقيقة في رؤوسهم. لا يدور شيء في رؤوسهم، ويوهم كل فريق الآخر بأن في رأسه شيئاً. رؤوس فارغة. أمعنوا التحديق في عيونهم؛ فارغة زائغة مطفأة. غير صحيح أن أحد الفرقاء يملك خطة. Plan A و Plan B. لا A ولا B. يكذبون على أنفسهم والآخرين. يتظاهرون أمام الرأي العام بمعرفتهم بالبئر وغطائها. لكنهم لا يعرفون أين البئر ولا غطاؤها. لا يعرفون شيئاً عمّا في تلك البئر. هم لا يخرجون فعلياً من بئر حتى يقعوا في غيرها. كل ما كان يشاع عن مصيرية معركة بابا عمرو بالنسبة إلى طرفي الصراع السوري واللبناني وأثرها المفصلي في مجرى الأحداث، تتكرر إشاعته اليوم عن معركة القصير. معارك في حرب مديدة. يخرج البلد من تعطيل التكليف ليدخل في تعطيل التأليف، فتعطيل حرَد الرئيس واستقالته ومحدودية تصريف الأعمال. ولا أحد يهتم. ليس السياسيون فقط. شعبياً لا أحد يهتم أو «تفرق» معه. لا أحد قادر على التأثير في ما يحصل أساساً حتى يهتم. طبقة عُجّز هي الطبقة السياسية. لا يملك قادة الرأي العام خطة، فلا يبقى أمام الرأي العام غير الهلوسة. يهلوسون في كاراج الإشبمون في الغبيري، يهلوسون عند بائع الكعك في نهر الموت، يهلوسون على امتداد رائحة البيرة عصراً من عين المريسة حتى الروشة، وفي مكاتب مجلس النواب يهلوسون. يتخيلون سيناريوات، يثقون بقياداتهم، سيناريوات تفعل فعل حبوب الهلوسة. حبوب هلوسة، لا حشيش. على شاشات التلفزيون وفي الإذاعات وبيانات السياسيين كثير من الهلوسة. هذيان.
كان يمكن الرئيس تمام سلام أن يعلن اليوم تشكيلته الحكومية، ولا أحد يعلم ماذا كان سيحصل. لا معلومات، يعيش رئيس الحكومة على تخيل ما سيحصل. المطلوب تشغيل الخيال. لا يوجد طالب يعلم، كسائر طلاب العالم، إن كان سيجري امتحانات نهاية الفصل الشهر المقبل أو لا. ولا موظف يعلم إن كان سيصل إلى آخر هذا الشهر ويقبض أجره أو أن الأوضاع ستسوء أكثر. تشتري منزلاً اليوم أو تنتظر أسبوعين أو شهرين أو عامين لتحتل منزلاً. تبقي تقاعدك في المصرف أو تسحبه وتهاجر. تغادر بلدتك مطلع كل أسبوع ولا تعلم إن كنت ستكون قادراً على العودة إليها في نهايته. تكفي ثانيتان لتقطع ببضعة أكياس رمل عدة طرقات وتعزل ببضع بنادق مناطق عن مناطق. اسألوا طرابلس. اسألوها عن أنفاس سياراتها حين تزاحم إحداها ذات الزجاج العازل أخرى تقودها صبية سافرة تجلس بقربها صبية سافرة هي الأخرى. أتراها تتصل بعناصر قوى الأمن مثلاً؟ يأكل عناصر قوى الأمن عند الطبّال «سندويشات» فلافل ضخمة ينقّط منها طرطور أصفر على بذلاتهم. كان يمكن حزب الله أن يردّ على الاختراقات الإسرائيلية اليومية، ولا أحد يعلم ماذا كان سيحصل. أتكون حرب أم لا؟ حرب بين حزب الله وإسرائيل أو بين حركة أمل وزفّة أحمد الأسير للأعراس. يمكن أن تقطع الشويفات باتجاه الجية لتمضي يوماً بحرياً ويبتلع حدث أمنيّ الطريق فتنام بملحك في السيارة على الشاطئ. أبقوا من اليوم وصاعداً فرشة على سطوح سياراتكم وبعض «الغيارات» وعلب سردين في صندوقها. خزنوا سردين.
إلى أين تفكر السعودية في أخذ البلد؟ أساساً، لكل أمير سعوديّ وجهته وتصور النائب اللبنانيّ المعتاش من بقشيشه. حين تسمعهم، تظن الملك السعودي مستشاراً عندهم. وليد جنبلاط صباحاً لا يعلم ماذا سيدور في بال وليد جنبلاط ظهراً. حزب الله لا يملك خطة. حزب الله والتيار الوطني الحر لا يعرفان ماهية خطة الرئيس نبيه بري، إن كانت لديه خطة. لا ستريدا جعجع تعرف حقيقة نيات سمير جعجع، ولا سمير جعجع يثق بسمير جعجع ليخبره بنياته. يلحق تمام سلام بالرؤساء رفيق الحريري وفؤاد السنيورة وسعد الحريري ونجيب ميقاتي، كما يريد جنبلاط أم يبقى محله؟ تمام سلام لا يعلم ما يقدر تمام سلام على فعله. وإذا كان هذا حال الصف الأول فكيف حال النواب مروان فارس وغازي زعيتر ونقولا فتوش واسطفان دويهي وميشال الحلو وقاسم هاشم وعلي بزي وعلي خريس وأيوب حميد وميشال موسى ونبيل نقولا ويوسف خليل وفادي الأعور. ماذا تراها تعرف جيلبرت زوين؟ شانت جنجنيان! أرأيتم إيلي ماروني يتحدث عن تحييد لبنان؟ يتسلى فتيان الكتائب؛ يريدون قطع الإنترنت عن لبنان وحجب التلفزيونات والإذاعات وسد الشبابيك بالباطون وتسييج البلد بجدار باطونيّ عملاق لا يمكن الطائرات الإسرائيلية بلوغ علوه. أما رئيس جمعية الصناعيين نعمة افرام فينشغل عن هموم الصناعيين وكوارثهم غير الطبيعية بسعيه الحثيث لتمثيل جمعية «فرح العطاء» في المجلس النيابي. على اللبنانيين تحمل تغنيج الآباء الطيبين الميسورين لأبنائهم. تسلوا بسؤال سليم كرم عمّا سيحصل. فادي كرم! تصر الإذاعات على قطع صوت فيروز وتسلسل أفكارها الخيالية لسؤال سيرج طورسركيسيان عن الأوضاع. ماذا يعرف طورسركيسيان عن الأوضاع؟ ماذا يعرف ميشال فرعون ونبيل دو فريج ومحمد قباني الناصري البعثي القومي الكفاحي غير المسلح في كتلة المستقبل؟ لا يحلم النائب المستقبلي معين المرعبي بأكثر من ذلك في قاعة واحدة: 27 نائباً رافضياً واثنان نصيريان و64 صليبياً ونحو عشرين مارقين؛ يمكن أن يلغّم نفسه ويفجر.
ليس صحيحاً أن لا أحد يعلم ما يمكن أن يحصل اليوم. الصحيح أن أحداً لا يملك تصوراً لما يمكن أن يحصل «بُكرا» و«بعد بُكرا»، سواء في المجلس النيابيّ أو السرايا أو في أحد الشوارع. ولعله شارعك، الشارع الذي تركن سيارتك فيه أو يَلعب فيه أبناؤك أو تهرول فيه وزوجتك. ولا يغير في هذه الضبابية إقرار «الأرثوذكسي». بالعكس، يزداد التعقيد تعقيداً. ولا يغير عدم إقراره شيئاً. أيضاً يزيد التعقيد تعقيداً. يذهب البلد إلى الانتخابات كمن يذهب إلى الحرب. يصعب إيجاد مكان آخر، دولة أو عشيرة، لا تنتظم فيها الاستحقاقات ضمن مواعيد ثابتة وينظم فيها دستور سير الأمور كما هو حاصل هنا. غابة جنون لا يريد أهلها القتال ولا الابتعاد من طريق المقاتلين.

السابق
حزب الله والأمر الواقع
التالي
شباب “حزب الله”