مواجهة محــسوبة أو حرب شاملة

ليست طويلة جداً تلك الأيام التي مرت منذ هجوم العدو على مواقع في سوريا. لكنها كافية لتفريغ الصدور. قال الكل ما يريدون قوله. من الذين تباهوا بأن نظام بشار الأسد يتعرض لضربة عسكرية قاسية، إلى الذين اعتبروا الأمر فاتحة لموجة جديدة ونوعية من حرب التدخل الخارجي لإسقاط الأسد، مروراً بالموالين والمعارضين الذين أُتيح لهم التبارز مراراً وتكراراً حول النقلة التالية للاعبهم المفضل.
طبعاً، ليس لطيفاً الطلب إلى كتلة كبيرة من المعلقين المتحمسين أو المحبطين، أن يقفلوا الأفواه. لكن من المفيد لفت انتباه هؤلاء إلى أن ضجيجهم لا يفيد في شيء. لا حماسة معارضي محور المقاومة المفرطة من شأنها تعديل وقائع الميدان المتبدلة منذ أربعة أشهر إلى الآن، ولا فورة غضب أنصار بشار الأسد من شأنها إفقاد الرجل لأعصابه. علماً أن مفارقة بارزة لناحية أن جمهور محور الشر الأميركي ـــ الخليجي أكثر وعياً من قيادته، بينما يفوز محور المقاومة بقيادة أكثر حكمة من جمهوره. مع العلم، أننا في مواجهة وقائع بسيطة، وسهلة على الفهم، وكل نفخ لأحداثها سيتحول نكتة، كتلك المملة المستمرة منذ 26 شهراً في سوريا: سيسقط النظام خلال أسابيع!

ماذا حصل؟

منذ أربعة أعوام، أدخلتنا إسرائيل في مفردة جديدة لنظامها الردعي، وهي بعنوان: ممنوع وصول «السلاح الكاسر للتوازن» إلى حزب الله في لبنان. وخلال كل السنوات الماضية، كنا نسمع عن أنواع مختلفة من هذا السلاح الكاسر للتوازن. تارة هو منظومة المضادات الجوية اس اس 300، ثم صار صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل كميات كبيرة من المتفجرات، ثم صار الحديث عن صواريخ فاتح 110 الدقيقة الإصابة، فجديد تحت عنوان السلاح الكيميائي.
أرسل الإسرائيليون عشرات الرسائل السياسية والدبلوماسية والأمنية إلى سوريا لمنعها من مواصلة تسهيل حصول حزب الله على هذه الأسلحة. وفي مرات عدة، قدم الإسرائيليون معلومات للجهات الغربية والعربية فيها صور ووثائق عن مصانع صواريخ يديرها حزب الله داخل الأراضي السورية، ثم بعثوا مرات بالطيران فوق الحدود اللبنانية ـــ السورية لتنفيذ غارات وهمية يراد منها القول لحزب الله وسوريا: نحن نراكم. ومع ذلك، لم يجرؤ مسؤول في إسرائيل على إعطاء الإذن بشن هجوم مباشر على المصانع، ولا على الطائرات الإيرانية، ولا على شحنات مفترضة إلى لبنان. كذلك لم يجرؤ أي مسؤول في إسرائيل على توجيه ضربة، ولو خاطفة، إلى مخزن أو منصة في لبنان نفسه. وعندما كانت القيادات العسكرية في إسرائيل تتوجه إلى القيادة السياسية، مطالبة بفسح المجال أمام التحرك، كانت تواجه بمعطيات استخبارية وأخرى عسكرية، بأن الوقت ليس مناسباً للدخول في مواجهة مع لبنان. وعندما تتسرب الأنباء إلى الصحافيين أو رجال السياسة، ويعمد هؤلاء إلى سؤال حكومة العدو عن الوضع، يأتيهم الجواب: هذه ليست صواريخ، إنها أنابيب مرسلة للبنى التحتية في جنوب لبنان!
الذي حصل منذ عامين، هو أن سوريا تبدلت. انفجرت الأزمة الداخلية، وسرعان ما تجمع العالم على سرقة مطالب وشعارات شعبية نحو معركة بأهداف عدة، ليس بينها على الإطلاق بناء سوريا القوية والديموقراطية. وخلال أشهر قليلة، عاش قسم من السوريين، وغالبية عربية ودولية، وهمَ إسقاط بشار الأسد على غرار ما حصل في مصر وتونس وليبيا. وسرعان ما أظهرت التطورات أن الأمور ليست على هذا القدر من البساطة، وأن سوريا دخلت في حرب وطنية موسعة، اختلط فيها النضال الشعبي لأجل تغييرات في الحكم، بمصالح الدول المعادية لقوى المقاومة في المنطقة. وتدحرجت الأمور إلى حدود باتت سوريا في مواجهة حرب كونية يقودها كل كلاب العالم، هدفها تدمير سوريا والعودة إلى النهش في جسم العراق الجريح، وتدفيع لبنان ثمن إلحاقه الهزيمة بإسرائيل وأعوانها، وعزل إيران ودفعها إلى معارك داخلية باسم الإصلاح.
ولما لم يعد خافياً على أحد أن سوريا لم تعد في وضع سياسي أو عسكري أو اقتصادي يمكنها من ادعاء خوض المعارك الكبرى، كان لا بد من مدها بالدعم المباشر من جانب قوى ودول محور المقاومة، مضافاً إليها الدور الناجم عن تبدل في رؤية روسيا والصين للواقع العام والمواجهة مع أميركا والغرب.
ببساطة، وفي ظل تقدير إسرائيلي مدروس بدقة تحتمل المغامرة، وجد أهل القرار في تل أبيب أن هناك إمكانية لإدخال تعديلات على قواعد اللعبة على الجبهة الشمالية. وقررت إسرائيل أنه ما دام ليس هناك من استعداد لخوض معركة جديدة مع حزب الله، وأن الحرب مع إيران هي على سبيل المزاح لا أكثر، فإن هناك إمكانية لاختبار مسار جديد. وكانت البداية باختبار مركز البحوث العلمية في جمرايا قرب دمشق، وهو المركز الذي بات الكل يعلم أن القيادة السورية قد وضعته منذ سنوات بعيدة في خدمة برامج المقاومة وحاجاتها في لبنان وفلسطين. وحاولت إسرائيل أن تعطي صفة «العملية الموضعية» على تلك الغارة. لكنها استعجلت خلال الأسابيع القليلة الماضية رفع مستوى الاختبار، وأن تنتقل إلى مرحلة تحول فيها العملية الموضعية إلى سياسة ثابتة. وقامت بالإغارة على أهداف قرب دمشق تخص الجيش السوري، لكنها تحوي أسلحة إيرانية موضوعة بتصرف المقاومة في لبنان.

العراضة

ومع أن إسرائيل لجأت إلى سياسة حافة الهاوية من خلال عدوانها، إلا أنها درست الشكل بطريقة دقيقة. فهي اختارت، على صعيد الأهداف، أسلحة إيرانية تخص حزب الله ومخزنة في سوريا. واختارت على صعيد التنفيذ، طريق اللصوص، بأن استخدمت حديقة الجار للسطو على المنزل المجاور، فكان أن وجهت الضربات العسكرية من أجواء لبنان. وهي لا تدفع ثمن خروقاتها الجوية على لبنان أصلاً. وبالتالي، قالت إسرائيل إنها أنجزت عمليات عسكرية ناجحة، ولمزيد من النشوة، عادت إلى الحديث عن السلاح الكاسر للتوازن وعن شحنات مرسلة إلى لبنان.
قد يكون صعباً على عاقل، تصور ضابط إسرائيلي رفيع يشرب نخب هذه الغارات. فأي واحد من هؤلاء يعرف أن ما حصل لا يمثل عملاً بطولياً من شأنه هزّ الجبهة المقابلة. وما ضرب من صواريخ لا يمكن احتسابه في معادلة ما تملكه المقاومة وتخزنه في لبنان، لا في سوريا فقط. وأن «التشاطر» على الأسد في وضعه الحالي، لا يعكس قوة إسرائيل، بقدر ما يعكس استغلالها لضعف الأسد أو لتبدل أولوياته.
ومع ذلك، فإن إسرائيل تصرفت كمن ارتكب ذنباً كبيراً وينتظر العقاب. فهي أولاً، لم تستطع المفاخرة بما قامت به. وهي بادرت إلى البعث بكمية هائلة من الرسائل السياسية والدبلوماسية والميدانية التي تقول بأنها لا تريد حرباً. وهي مستمرة حتى هذه الساعة، تنتظر تقويماً كل عدة ساعات من جانب الجهات المعنية، من دون حسم الجواب الأصعب: ماذا قرر الطرف المقابل؟

التقديرات المتقابلة

يعني هذا ببساطة، أن إسرائيل انطلقت في قرار شن العدوان على سوريا، من فرضية أن الاسد ومع الحلفاء في إيران ولبنان ليسوا في وارد الانشغال في جبهات جديدة، ما يعني أن إسرائيل تفترض أن الجهة المقابلة لن تقوم بأي رد يمكن أن يقود إلى حرب، خشية أن يدمّر الجيش الإسرائيلي قدرات يحتاجها الجيش السوري في أماكن أخرى. وهذا التقدير يعني أن إسرائيل لا تريد حرباً، بل هي تريد القيام بأعمال منتقاة تهدف من خلالها إلى إدخال تعديلات على قواعد اللعبة.
في الجهة المقابلة، باتوا يجيدون قراءة عقل العدو. وفي العقل البارد لقيادة محور المقاومة من يعرف حقيقة التقدير الإسرائيلي. وبالتالي، إن الجسم العام لمحور المقاومة سيتصرف على أساس أنه ليس قادراً اليوم على الدخول في مواجهة كبيرة مع إسرائيل، بينما هو يعمل على تعزيز موقعه في الحرب القائمة على سوريا وفيها.
لكن في هذه الجهة أيضاً من يطرح السؤال: إذا كانت إسرائيل لا تريد حرباً، وهي تتكل على أن محورنا لا يريد الانجرار إلى حرب، أفلا يتيح لنا ذلك القيام برد مدروس من شأنه منع العدو من فرض قواعد اللعبة الجديدة، وساعتها إسرائيل لن ترد بما يقود إلى حرب؟

حافة الانفجار

لكن هذا السؤال يحتمل الكثير من العناصر المعقدة. صحيح أن إيران وحزب الله ليسا في وضع يجبرهما على القيام بعمل متسرع ضد إسرائيل رداً على الغارات على سوريا. لكن النظام في دمشق، وإن كان شريكاً حقيقياً في كل انتصارات المقاومة في لبنان وفلسطين، لا يملك في رصيده ما يعفيه من الإجابة عن سؤال جمهوره: لماذا لا تردّ على إسرائيل؟
ومع ذلك، فإن الواقعية تقتضي الإشارة إلى الآتي:
أولاً: إن طبيعة العدوان الإسرائيلي جعلت سوريا في مركب واحد مع إيران وحزب الله. وبالتالي إن أي قرار بالرد على العدوان سيكون حصيلة تفاهم وتشاور وحسابات الأطراف الثلاثة.
ثانياً: إن الحسابات السورية اليوم، وتطلعات إيران وحزب الله من الرئيس الأسد، تقود إلى أن المهمة الرئيسية اليوم هي القضاء على محاولة تقسيم سوريا ونقل الحكم فيها من ضفة المقاومة إلى ضفة جماعة إسرائيل. وما دامت إيران وسوريا وحزب الله تصنف خصوم الأسد اليوم بأنهم أتباع إسرائيل أو حلفاؤها، فإن توجيه الضربات لهم سيكون في حقيقة الأمر توجيهاً للضربات إلى إسرائيل نفسها.
ثالثاً: إن إسرائيل تحاول فرض قواعد لعبة جديدة، لكن من الغباء الاعتقاد بأنه يمكن تحقيق النتيجة من جولة واحدة كالتي حصلت. وإذا كان محور المقاومة لن يقبل بهذه القواعد، فهذا يعني أنه يدرس خيارات الرد التي تفهم العدو أن القواعد الجديدة مرفوضة. وهذا يقود إلى احتمال اندلاع جولة من المواجهة تكون شبيهة في حدها الأدنى بما حصل أيام تموز 1993 أو نيسان 1996، تقود عادة إلى فرض قواعد جديدة، وفي حدها الأقصى، تقود إلى حرب شاملة، لا أحد يعرف حجمها ومداها وقسوتها ولا حتى نتائجها.

الحرب المقبلة

وفق ما تقدم، يمكن استخلاص النتائج الآتية:
ـــ من كان يريد رداً مباشراً وموصوفاً على غارات إسرائيل، فليتوجه إلى العنوان الصحيح، أي إلى إيران وحزب الله. وثمة مناخ يكفي للتقدير، بأنّ هناك رداً آتياً لا محالة.
ـــ من كان يريد الرهان على ما تقوم به إسرائيل لتعديل موازين القوى في الحرب السورية الداخلية، فما عليه إلا انتظار نتائج المواجهات المحتدمة والمقبلة على جولات أكثر عنفاً.
ـــ من يعتقد أن واقع المنطقة يتيح لإسرائيل المبادرة دون تلقي الجواب، وبالتالي يتوقع تراجعاً في خطط محور المقاومة أو مواقفه، يكن مرة جديدة غير قادر أو غير راغب في معرفة كيفية تفكير عقل هذا المحور، وآليات عمله.
ـــ إن المؤشرات العملانية، والمحسوسة، تقود إلى أن مؤشرات الحرب الواسعة تزداد يوماً بعد يوم، وأن كيفية أو توقيت اندلاعها رهن أشياء كثيرة وإرادات عدة.
شيء أخير يجب الإشارة إليه، هو أن ما يجري في سوريا اليوم لم يعد له أي علاقة، لا من قريب ولا من بعيد، بشيء اسمه ثورة وطنية. إنه تمرد مسلح مدعوم من قوى معادية لسوريا الدولة والهوية والوجهة. إنه الحماقة الكبرى.

السابق
الاخبار: ملهاة التأليف: حكومة أمر واقع على الأبـواب
التالي
الجميّل يفرح بفرنجيّة