العروبة الجديدة غير العروبية

"العروبة الجديدة" بقيادة الإسلاميّين عروبة حقيقية لأنها إسلامية ولكنها عروبة بلا أوطان، أو بلا فكرة وطنية. وإذا كانت نظرية المؤامرة صحيحة، يكون الغربُ هو الذي أسّس بلدانَنا قبل ثمانين عاما وهو نفسه الذي يسمح لنا بتدميرِها الآن.

الموجة السائدة في الأوساط الثقافية-السياسية العربية هي أن "العروبة" كفكرة أيديولوجية قد ماتت. ومنبت هذا الاعتقاد هو ربط موتها بموت الأحزاب القومية الكبيرة التي طبعَتْ وحكمت حياتنا العامة منذ مابعد الحرب العالمية الثانية وهي أولا حزبُ أو حزبا البعث الذي لا يزال النظامُ السياسي المنبثق عنه يقاتل في آخر معاقله الكبرى سوريا، والأحزابُ الناصرية الموجودة هامشياً بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، وحركة القوميين العرب التي شبعت موتاً.
ليس صحيحا أن "العروبة" ماتت، الذي مات هو نمط من العروبة امتدّ منذ الأربعينات من القرن المنصرم، ولكن وُلِد نمط جديد من "العروبية" هو الذي تنطوي عليه في جملة ما تنطوي أوضاع ما بعد "الربيع العربي". هذا "الربيع" خلال أقل من ثلاث سنوات لم يعد إسما يحمل حُكمَ قيمة واحدة بقدر ما أصبح عنوانا لتحوّلات متعددة الأوجه.
ما هي معالم هذه العروبة الجديدة الناشئة على أنقاض السابقة؟
سبق لي أن كتبتُ وكانت عدوى المظاهرات واهتزاز الأنظمة تنتقل من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن أن المشهد العربي يبدو الآن أقرب إلى اندلاع التظاهرات والانتفاضات والثورات بين ولايات في دولة واحدة منه إلى اندلاعها في دول مختلفة.
إذاً المعلم الأول لـ"العروبة" الجديدة تحويلُ دولها إلى "ولايات"!
كان علينا أن ندرك –بل أن ننتبه- إلى أن هذه التغييرات التي يقودها إما إسلاميّون يحملون مفاهيمَ ولغة ورموزا من عصرٍ سحيق أو شبابٌ علمانيّون وليبراليّون نموا وترعرعوا بين ثنايا الطبقات الوسطى الجديدة في عواصم ومدن بلدانهم ويحملون شعاراتٍ ومطالبَ محليّة… هذه التغييرات إنما هي تأكيدٌ على عمق ترابط الثقافة السياسية العربية وليس نفياً لها. حتى في الميدان السلمي الأوسع والأكثر جاذبية (ووعْداً؟)، ميدان التحرير في القاهرة، كان نمط غير استعراضيٍّ بل كامنٌ من الإحساس بالحاجة إلى استعادة الكرامة في "القضية القومية" فلسطين التي عاشت عليها طويلا "العروبة السابقة"… كان هذا النمط لا يعبّر عن نفسه مباشرة ولكنه كان موجودا بعمق في كل الحيوية الشبابية المعادية للاستبداد الداخلي.
المعلم الثاني لهذه "العروبة" الجديدة أن الإحساس بالكرامة مُوَجّهٌ ضد أنظمة الاستبداد لا ضد إسرائيل التي يكرهها الشارع الجديد- في مصر وتونس- ولكنه كان معنياً بقتال النظام الذي تراه نُخبُهم متحالفا معها. أما في الثورتين الليبية والسورية فالبعد (الفلسطيني) القومي التقليدي لم يكن حاضرا مطلقاً لأسباب عديدة يجب دراستها وبعضها لا شك يرتبط بطبيعة التشكّل "الدياسبوري" أو الاغترابي للكثير من نخب المعارضة العلمانية والدينية المهاجرة والمهجّرة التي أصبحت على مسافة فكرية و"عصبية"- كما جغرافية- من "ضغط" هذا البُعد.
"العروبة الجديدة" بقيادة الإسلاميّين عروبة حقيقية لأنها إسلامية ولكنها عروبة بلا أوطان، أو بلا فكرة وطنية لم يقبل الإسلام ُ بها يوماً في العمق. أسّس الإسلام بعض أجمل وأغنى مدن البشرية ولكن "الفكرة الوطنية" وافدةٌ عليه منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية. مدخل العروبة الجديدة إلى الحداثة بل حداثيّتُها أو احتمالُ حداثيّتِها هي الفكرة الديموقراطية. ولذلك نحن أمام نجاح جديد أوفرصة نجاح جديدة بين الإسلام والديموقراطية سبق أن فتح المجالَ لإسقاطِها قيامُ دولةِ إسرائيل عام 1948 بما افتتحه من سياق وصول القوى العسكرية لـ”العروبة غير الديموقراطية” إلى السلطة وبالتالي انهيارُ العصر الليبراليِّ الذي قادته بورجوازية المدن العربية في النصف الأول من القرن العشرين.
للدولة الوطنية في العالم العربي تاريخٌ هو تاريخُ احتلالِ الدول الأوروبية لها. بهذا المعنى الاستعمار هو الذي صنع الدولة الوطنية، ومقاومتُه هي التي صنعت الفكرة الوطنية التي كانت متزاوِجة مع الفكرة الديموقراطية في مرحلة الحكم الأوروبي ثم حصل الطلاق بعد نجاح الحركات الوطنية في إخراجه. على مستوى آخر فإن تأسيسَ إسرائيل أي اقتلاعَ الشعب الفلسطيني من أرضه هو الذي صنع الوطنية الفلسطينية.
لكن المعضلة العميقة التي تواجهها “العروبة الجديدة” والتي تفرض نفسها على الإسلاميين في الحكم وعلى معارضيهم في تونس والقاهرة والعراق هي أن العروبة الثانية ترث الدولة الوطنية من العروبة الأولى وقد أصبحت هذه الدولة كائنا مُنهَكاً في السياسة والاقتصاد والاجتماع على مدى تحوّلات ستين عاما ونيّفٍ من الاستقلال وحوالي تسعين عاما من الولادة: مدنٌ منهَكةٌ بأعباء الريفيين الفقراء الذين استقطَبَتْهم، وبالعشوائيات التي أرغمتهم أوضاعُهم على نشرِها في القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد والتي تبلغ في بعض العواصم ومحيطها ستين بالماية من الأبنية، وببيروقراطيّاتٍ حكومية متضخّمة وجامعاتٍ وطنية منحطّة المستوى و مجتمعاتٍ في حركة نزف دائم لثرواتها ولنُخبِ كفاءاتها المهاجرة التي صارت جزءاً من أنظمة حياة وإنتاج غربية، وجيوشٍ أرهِقتْ بِـ”القضية القومية” وبآثار حقبة حكم الضباط وبالمسؤوليات الضخمة لـ”دولة الرعاية” التي غيّرت توزيعَ الثروات الوطنية من طبقة إلى طبقات جديدة.
العروبة الأولى خسرت سلطة على دول استلمَتْها حديثةً و صاعدة، أما العروبة الثانية فترث دولاً منهارة أو فاشلة ومجتمعاتٍ ذاتَ وشائجَ متراجعةٍ بل متصادمةٍ بشكل خطير كما في دول الهلال الخصيب ووشائجَ آخذةٍ بالضعف كما في مصر.
العروبة الأولى دولتية تسلّطِيّة، العروبة الجديدة مجتمعيّة تفكّكية.
أريد أن أختم هذه التأملات بالقول لأصحاب نظرية المؤامرة التي تشهد رواجا في الوقت الحاضر حتى بين العديدين من عناصر المعارضة السورية، النظرية القائمة على الاعتقاد بأن هدف الغرب ليس نجاح الثورة السورية بل هو تدمير سوريا مثلما سبق للغرب أن شجّع سياساتٍ أدّت إلى تدمير العراق الواعي وغير الواعي من تشجيع صدام حسين على شن حرب مدمّرة في الثمانينات إلى حتى احتمال أن يكون قد شُجِّع أميركيا على القرار- الكارثة باحتلال الكويت (لغز السفيرة غلاسبي الشهير) إلى إسقاطه بالغزو العسكري العام 2003 بعد حصار دمّر البنية العراقية في التسعينات فيما كان صدام حسين قد أنجز تدمير المجتمع العراقي…
هل يجوز أن نقول لأصحاب النظرية هذه أنه إذا كانت صحيحة فيكون الغرب هو الذي أسّس هذه البلدان قبل ثمانين عاما وهو نفْسُه الذي يسمح لنا بتدميرها الآن؟؟

السابق
لبنان … والرهانات القاتلة
التالي
تنازلات عربية غير مبررة